ما أصعب أن تُقاوم على جبهتين!

منذ فترة ليست بالقصيرة، وأنا تترسخ لدي يوما بعد يوم قناعة مفادها أن هناك ضرورة ملحة للخروج من نمط التفكير السياسي التقليدي الذي اتبعته الأغلبيات التقليدية والمعارضات التقليدية خلال العقود الماضية، وهذا النمط من التفكير قائم بالنسبة للأغلبيات التقليدية على التثمين المطلق الذي يحاول أن يُسوق للمواطن أن البلد يعيش نهضة غير مسبوقة، وأن النظام قد أنجز كل شيء،  وقائم عند المعارضة التقليدية على النقد المطلق، والذي يُحاول أن يُسوق للمواطن أن البلد يعيش أسوأ أيامه، وأن النظام قد أخفق في كل شيء.
لو كان الخطاب السياسي القائم على التثمين المطلق يمكن أن يؤدي إلى إصلاح حقيقي لكانت بلادنا تعيش اليوم في نعيم ورخاء، فالأغلبيات السياسية المتعاقبة أو المتحورة لم تقصر منذ بداية التسعينيات وحتى اليوم في التثمين المطلق لما أنجزته الأنظمة المتعاقبة، ولما لم تنجزه تلك الأنظمة.
ولو كان الخطاب السياسي القائم على النقد المطلق يمكن أن يؤدي إلى تغيير حقيقي لتغير الحال في بلادنا من حال إلى حال، فالمعارضات السياسية المتعاقبة أو المتوارثة لم تقصر منذ بداية التسعينيات وحتى اليوم في جلد الأنظمة ونقدها بأقسى العبارات.
إننا اليوم في أمس الحاجة إلى نمط جديد من التفكير السياسي خارج صندوقي الأغلبية التقليدية والمعارضة التقليدية، ونحن بحاجة كذلك إلى خطاب سياسي جديد لا يقتصر فقط على التثمين المطلق أو النقد المطلق. علينا أن نعلم أنه من الغباء أن نُعيد نفس الخطاب السياسي في تسعينيات القرن الماضي، سواء كنا موالين أو معارضين، أن نعيده دون أي تعديل بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، وأن نتوقع في الوقت نفسه نتائج مختلفة في زمن تغير كثيرا ولم يعد مثل تسعينيات القرن الماضي، ويكفيه من التغير أنه قد ظهرت فيه وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أصبح روادها ينافسون وبقوة الأحزاب السياسية والإعلام التقليدي في صناعة الرأي العام، وفي التأثير على قناعات المواطنين.
في الفترة الأخيرة تابعنا محاولات ما زالت في بدايتها للخروج من عباءة المعارضة التقليدية والموالاة التقليدية، وكان ذلك من خلال ظهور تيارين سياسيين في وقت شبه متزامن، أحدهما يحسب على المعارضة وهو تيار "الأغلبية الصامتة"، والثاني يحسب على داعمي فخامة رئيس الجمهورية وهو تيار "من أجل الوطن". 
 في هذا المقال سأتوقف فقط مع "تيار من أجل الوطن"، وذلك بصفته هو التيار الأقرب لي، خاصة وأن من بين مؤسسيه أصدقاء جمعتني معهم مبادرات تبنت خطابا سياسيا داعما يجمع بين التثمين والنقد (حراك 3 ن)، ولولا الانشغال بالعمل الجمعوي ومحاولة التفرغ له في الفترة القادمة لكنتُ من بين مؤسسي هذا التيار، والذي أتوقع منه ـ وفي تشكيلته الحالية ـ أن يكون قادرا على تسويق المنجز، وشجاعا في كشف الخلل، وأهلا لتقديم المقترحات والمبادرات الإصلاحية، وأن يكون بالإضافة إلى كل ذلك قادرا على أن يُقاوم وببسالة على جبهتين اثنتين لفرض وجوده في المشهد السياسي خلال السنوات القادمة.
الجبهة الأولى : جبهة الأغلبية
من الطبيعي جدا أن تنزعج الأغلبية التقليدية من ظهور تيار سياسي جديد يرفع شعار دعم فخامة رئيس الجمهورية، ويستخدم أساليب جديدة في الدعم، فالأغلبية التقليدية ستعتبر هذا التيار منافسا لها، وربما تصنفه ـ وبشكل غير معلن ـ على أنه خصم سياسي يأتي من حيث مستوى الخطورة قبل المعارضة التقليدية.
على المستوى الشخصي، وبصفتي داعما لفخامة رئيس الجمهورية من خارج أغلبيته التقليدية، فقد تلقيتُ ضربات قوية من بعض أطراف هذه الأغلبية، ولكني لم أذكرها ولن أذكرها في الوقت الحالي لأني ضد كل ما من شأنه أن يتسبب في ظهور شقاق أو خلاف في الأغلبية الداعمة لفخامة الرئيس، ومن الراجح أن تيار من أجل الوطن تلقى وسيتلقى مستقبلا طعنات أقوى من الأغلبية التقليدية للرئيس، والتي ستعتبره منافسا حقيقيا لها.
إن تيار من أجل الوطن بحاجة إلى أن يبذل جهدا كبيرا لإقناع الأغلبية التقليدية أنه ليس خصما لها، وإنما هو مكمل لها، وأنه سيتحرك في مساحات لم تعد الأغلبية التقليدية قادرة على التحرك فيها بشكل جيد، وأن خطابه السياسي ليس خطابا ناقدا للأغلبية التقليدية، وإنما هو خطاب مكمل لخطابها، وموجه بالأساس إلى جمهور واسع من الداعمين الذين لم يعودوا يقبلون بالخطاب التقليدي للأغلبية التقليدية، القائم على التثمين فقط دون أي ذكر للاختلالات و النواقص، وهي اختلالات ونواقص موجودة، وستبقى موجودة مهما كان مستوى الأداء الحكومي.
إن السعي للإقناع بأهمية التكامل في لعب الأدوار داخل الأغلبية الداعمة لفخامة الرئيس بدلا من الصراع بينها، هو ما جعلني أختار للعنوان كلمة "تُقاوم" بدلا من كلمة "تُحارب" حتى وإن كانت هذه الأخيرة هي الأنسب إعلاميا لتكون في عنوان المقال.
إن المطلوب من تيار من أجل الوطن هو أن يُقاوم داخل الأغلبية لإثبات وجوده أولا، وثانيا لطمأنة الأغلبية التقليدية على أنه مكملا لها وليس خصما لها.
الجبهة الثانية : جبهة المعارضة 
تعرض وسيتعرض تيار من أجل الوطن لهجوم قوي من مدوني المعارضة، وربما يكون الهجوم عليه من المعارضة أقوى من الهجوم على حزب الإنصاف، وذلك لشعور بعض المعارضين أن هذا التيار وغيره من الداعمين غير التقليديين سينافس المعارضة في كسب ود المواطن، وذلك من خلال حديثه عن بعض المشاكل التي يعاني منها المواطن، والتي نادرا ما تتحدث عنها الأغلبية التقليدية.
ثم إن محاولة الوقوف في منطقة سياسية بين خصمين تقليديين ( الأغلبية التقليدية والمعارضة التقليدية)، وبغض النظر عن بعد التيار أو قربه من هذا الطرف أو ذاك، ستعرض التيار إلى مواجهة نارين، إحداهما تأتي من الأغلبية التقليدية، وذلك لشعورها بأن هناك داعما جديدا ينافسها على كسب ثقة رئيس الجمهورية، والثانية ستأتي من المعارضة لشعورها أن هناك من ينافسها في كسب ثقة المواطن، وذلك من خلال تبني مشاكله والدفاع عنه بأسلوب مختلف عن أسلوب المعارضة.
نعم سيواجه تيار من أجل الوطن نيرانا من الأغلبية التقليدية ومن المعارضة، وهو ما سيزيد من حجم تحديات وصعوبات الولادة والنمو، ولكننا نأمل أن يتمكن التيار من فرض نفسه في الساحة السياسية، وهو سيتمكن من ذلك بالفعل إن استطاع أن ينجح في كسب ثقة فخامة رئيس الجمهورية، وكذلك في كسب ثقة المواطن.
ولكسب ثقة رئيس الجمهورية، فعلى التيار أن يثبت وجوده خلال الحملة الانتخابية الرئاسية القادمة، وأن يثبت للرئيس أنه قادر على تسويق منجزاته في فضاءات إعلامية ولدى جمهور من الداعمين لم تتمكن الأغلبية التقليدية بأساليبها التقليدية وبخطابه التقليدي أن تصل إليه.
ولكسب ثقة المواطن، فعلى التيار أن يثبت للمواطن أن تبنيه لهموم ومشاكل المواطن يختلف عن تبني المعارضة التقليدية لتلك الهموم والمشاكل، فكثير من المعارضين التقليديين لا يبحث عن حلول لتلك المشاكل والهموم، وإنما يستخدمها فقط ضد النظام إعلاميا وسياسيا، وقد لا يرغب أصلا في حلها، على العكس من تبني الداعمين غير التقليديين لتلك المشاكل والهموم، فهم يسعون بجد لإيجاد حلول لها، وذلك لشعورهم أنهم يتضررون من تلك المشاكل و يتضرر منها أكثر فخامة رئيس الجمهورية الذي يدعمونه بصدق وجدية، وبأسلوب يختلف عن الدعم التقليدي للأغلبية التقليدية، والتي تعودت منذ تسعينيات القرن الماضي، وحتى اليوم، على تجاهل تلك المشاكل بشكل كامل، واعتبارها وكأنها غير موجودة أصلا.   

 

حفظ الله موريتانيا..

 

محمد الأمين الفاضل
Elvadel@gmail.com

 

 

21 March 2024