دور موريتانيا المرتقب في مكافحة الهجرة: فرصة لضرب عصفورين بحجر واحد

أدت زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية ووفدها الأخيرة لموريتانيا إلى اندلاع نقاش حاد حول دور الأخيرة (موريتانيا) المرتقب في مكافحة الهجرة غير النظامية إلى أوروبا، وبروز محتوى مسودة اتفاقية بين الطرفين في هذا المجال على وسائل الإعلام المحلية.  أثار الدور المتوقع أن تلعبه بلادنا في مكافحة الهجرة مخاوف من تداعيات نتائجه السياسية والاجتماعية والاقتصادية السلبية على مجتمعنا، إضافة إلى ما قد يتضمنه من انتهاك للسيادة الوطنية. فتسارع الجميع إلى عزف أناشيده المعهودة ما بين متهم للحكومة بالخيانة ومناصر يعتبر الدور الجديد مؤشرا إضافيا على تزايد الوزن الدولي لموريتانيا تحت رعاية فخامة رئيس الجمهورية. ولكن ما نحن في أمس الحاجة إليه هو نقاش موضوعي لحيثيات القضية، مبني على اعتبارات المصلحة الوطنية على المدى القريب والبعيد، دون أن يشكل دعاية عمياء لهذا الاتجاه أو ذاك.

 

فمن المعروف أن الدول الأوروبية تبذل كل ما في وسعها لمنع المهاجرين من الوصول إلى حدودها قبل أن تحق لهم الاستفادة من الحقوق التي تخولها لهم القوانين المحلية والدولية. هذه هي أسهل طريقة للتهرب من المسؤوليات القانونية والإنسانية اتجاه هؤلاء المهاجرين وما قد ينجم عن ذلك من تكاليف اقتصادية وإلقاء جميع هذه المسؤوليات على عاتق دولة أخرى.  الأمر الذي يوضح أن الدول الغربية لا تأبه لحقوق الإنسان أو حتى احترام قوانينها الوضعية، وأنها مستعدة لمخالفة نصوص هذه القوانين ومضامينها من خلال استئجار أي أحد آخر (أو دولة) للقيام بذلك بالنيابة.

 

ويبقى السؤال الأهم بالنسبة لنا كموريتانيين هو كيف نستغل هذه الفرصة لتحقيق أهداف وإنجازات تخدم مصالح شعبنا دون التضحية بقيمنا وسيادتنا الوطنية؟

 

فرصة لتعزيز ثقة الشعب وتطوير وتفعيل نظام الهجرة في موريتانيا

يجب أن تدرك الحكومة أن الشعب له الحق ويستحق أن يكون على دراية بتفاصيل تسيير أمور الدولة، وخاصة ما يشغل الرأي العام منها لتحقيق هدفين أولهما تعزيز ثقة المواطن بالحكومة وثانيهما محاربة الإشاعات التي ستنتشر لا محالة في غياب وجود الحد الكافي من المعلومات الشفافة ذات المصادرة الموثوقة.  فإذا كان الدور الذي يتوقع أن تلعبه موريتانيا في مكافحة الهجرة غير النظامية هو فعلا دور مشرف يخدم المصالح الوطنية والإقليمية، فإن التعتيم على تفاصيل المفاوضات لا يستفيد منه سوى من يسعى إلى اتهام الحكومة بالخيانة والتفريط.

 

من جهة ثانية، لم يعد من السهل التعتيم على المعلومات فيما يتعلق بالاتفاقيات متعددة الأطراف التي تضم دولا قد تعتبر أكثر انفتاحا وشفافية لأنها قد توفر هذه المعلومات لمواطنيها ووسائل إعلامها. فالأحرى بحكومتنا توفير هذه المعلومات لمواطنينا بدل أن يلجؤوا للحصول عليها من مصادر أجنبية.

 

وبموجب ذكر المعلومات، يجب على الحكومة توفير إحصائيات وافية عن أعداد المهاجرين المقيمين في موريتانيا تتضمن بلدانهم الأصلية ومدة إقامتهم. كما يجب عليها (الحكومة) -بل الحري بها- أن تتخذ الإجراءات اللازمة لمحاربة الهجرة غير المنظمة إلى بلدنا قبل محاربة الهجرة غير المنظمة إلى أوروبا. هذا في بالغ الأهمية نظرا للتطورات الاقتصادية والتوجهات السياسية التي ستجعل موريتانيا وجهة للهجرة أكثر من أي وقت مضى. فلنعتبر من المشاكل التي تعانيها أوروبا بسبب الهجرة العشوائية ولنتخذ إجراءات وقائية قبل فوات الأوان.  
ويجب أيضا أن تكون هناك إحصائيات عن المهاجرين الموريتانيين في الخارج حتى يتسنى لنا معرفة حجم المشكلة وكيفية معالجتها.

 

فرصة للضغط على "شركائنا" الأوروبيين لخدمة احتياجات البلد الحقيقية
قد تكون الهجرة غير المنظمة أولوية قصوى للاتحاد الأوروبي، ولكنها (الهجرة غير المنظمة إلى أوروبا) لا تهمنا في شيء على الإطلاق. فإذا قبلت الحكومة الموريتانية مساعدة الاتحاد الأوروبي على حل مشكلته، فعليها بالمقابل أن تشترط مساعدة الاتحاد لنا في حل مشاكلنا الحقيقية مثل الحصول على التكنولوجيا المتقدمة ودعم برامج التنمية في مجالات التعليم العالي والخدمات الصحية المتطورة. فموريتانيا ليست بحاجة إلى سمكة لا توفر إلا وجبة واحدة لكن ما نحتاجه هو أن نتعلم الصيد حتى نتمكن من اصطياد السمك لنوفر الغذاء لأنفسنا بصورة مستمرة.

 

فالاتحاد الأوروبي يحتاجنا لمحاربة الهجرة ونحن في المقابل نحتاج إلى مؤسسات تساعد في تنمية قدراتنا الطبية والتعليمية والصناعية، وتأطير كوادر مهنية من أبناء وبنات الموريتانيين لتسيير هذه المؤسسات لتساعد على تحقيق اكتفاء ذاتي في هذه المجالات.

 

 نحتاج إلى مصانع لتصنيع الحديد والثروة البحرية الهائلة وتشغيل العاطلين بدل تصدير هذه المواد الخام بأثمان بخسة. فإذا كنا سنُجنِّد طاقتنا -وربما نتنازل عن جزء من سيادتنا- لمساعدة الأوربيين على حل واحدة من أكبر المشاكل التي تواجههم، فأقل ما يجب أن نطلبه في المقابل هو أن يساعدونا على حل بعض أكبر المشاكل التي تواجهنا وألا نكتفي ببضعة ملايين لن تكون لها أي فائدة ملموسة أو تأثير يذكر.

 

يجب علينا أن نأخذ بزمام المبادرة وأن نفرض شروطنا التي تخدم مصالحنا وأن نرفض الحديث عن "مصالح مشتركة". فهمها حاول الأوروبيون إقناعنا بالعكس، تظل الهجرة الغير منظمة مشكلة أوروبية بحتة، أولا وأخيرا، ويبقى الافتقار إلى التكنولوجيا المتقدمة وتطوير المصانع والمستشفيات المتخصصة هي المشاكل التي تواجهنا، ولا قاسم مشترك بين الاثنين. فإذا كنا حقا نمتلك السيادة فيجب أن نملي شروطنا ونسعى إلى تحسين ظروف معيشة شعبنا. أما إذا لم يكن لنا أي خيار في الأمر ولا نمتلك سوى الخنوع لما فُرِض علينا، فإننا نستحق كل ما سينصب علينا من عواقب وخيمة جراء هذه الاتفاقية أو التي ستأتي بعدها أو التي ستأتي بعد ذلك.

 

طبيعة الواقع تفرض علينا التعاون مع الدول القريبة والبعيدة ومن غير المجدي أن نحاول الانطواء على أنفسنا والانعزال. لكن يجب أن يكون هذا التعاون أو التعامل مبني على احترام متبادل وشراكة حقيقية تتضمن مكاسب متوازنة تماشيا مع ما تتطلبه احتياجاتنا الحالية والمستقبلية.

 

الدكتور احمد ولد سيدي محمد خبير في علم الأوبئة، وعضو هيئة تدريس جامعي، مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

 

 

26 February 2024