ملاحظات عابرة على قضية عميقة.. مذكرات بنبه ولد سيدي بادي
أتيحت لي هذه الأيام، في لحظة خلوة إلزامية بالبيت؛ إثر وعكة صحية عابرة، - ولله الحمد - أن أقرأ بتروّ ثم بعمق مستحق؛ مذكرات السياسي النابه والرجل العصامي بنبه ولد سيدي بادي، لأرافقه في رحلة الزمن؛ من قرى آدرار وبوادي إينشيري عام 1935 إلى يومنا هذا، نسأل الله أن يطيل عمره في طاعته، ويديم صحته ويحفظ عليه قواه، إنه كريم مجيب.
ولم يكن من عادتي التعليق على ما أقرأ، ولا فحصه فحص الكتبة والمهتمين، فحسبي من القراءة في مثل هذه المذكرات - فضلا عن متعتها - توثيق بعض الأحداث أو الاطلاع على بعض تفاصيل اللحظات التاريخية الغائمة في التاريخ السياسي خصوصا للبلد.
بيد أني وجدت نفسي مستغرقا في صفحات تجمع الذهن وتستثير التفكير وتستحضر المعطيات المتتالية، بسرد محكم ومختصر ومفيد، لا أفوت أن أشكر عليه وكالة الأخبار ومن حرر المذكرات.
وفي هذه الرحلة الماتعة من التاريخ السياسي ما يكفي وحده للاستمتاع بقراءتها، فكيف وقد طعمها بالتجربة الماثلة والخبرة الحاضرة؟! لينبه الجميع إلى أن الخبرات تتحالف وتتوحد وتندمج في تجربة الرجل الواحد، فينبه فضلا عن عصاميته الماثلة؛ ذو تجارب متعددة ليس عالم الأعمال الذي عرف به وشاع عنه إلا صفحة من صفحاتها؛ ومحطة من محطاتها، أفاد بها ومنها وأجاد فيها وأعطى وأخذ، وتلك سنة الحياة مع الإيجابيين من أمثاله.
لفت نظري في حضور ذاكرة الرجل؛ رهافة حسه الاجتماعي واكتمال عقله السياسي المبكر، ونضوج رأيه الذي صدقته التجربة وحالفته الوقائع، كما لفت انتباهي إنصافه لخصومه وتقديره لمنافسيه، واكتمال أطراف المروءة في تجربته.
والحقيقة أنني ما كتبت هذه الخاطرة لأقدم قراءة للمذكرات فصفحاتها المكتنزة كافية وحدها في دعوة القراء مثقفين وسياسيين ومهتمين لقراءتها، لكني أردت من هذه الخُطاطة أن أدعو إلى فكرة تبدو في ظاهرها مكررة لكنها في جوهرها جديدة في مثل هذه المناسبات.
وقبل أن أسطرها أدعوكم للانتباه إلى أن المشاريع التي تولى هذا الرجل تشييدها؛ ما زالت قائمة راسخة شاهدة على أن رجل الأعمال الوطني يمكنه أن ينجز بحسه الوطني شواهدَ ثابتةً؛ ومعالم شاهدة بأن الفساد ليس من صنع رجل الأعمال، وأن الربح ليس من سرقة المال العام، وأن الصادق من هؤلاء يمكنه أن يحقق لنفسه وبلاده بحجم ما حقق ولد سيدي بادي الذي ما تزال المنشئات التي شيد منذ مطلع الستينيات إلى انقلاب 1978، شاهدة على ما أسلفناه، خلافا لمنشآت لم تمر عليها سنين حتى تدهورت ومنها ما أصبح في خبر كان.
الواجب هنا أن نكرم هذا الرجل هو وأمثاله في حياتهم وأن نشهدهم على حبنا لهم وتقديرنا لما أنجزوه، فما عهدناه من ذرف الدموع على الميت والشهادة له بعد أن يدفن لا يكفي ولا يحقق المطلوب، فهذا الرجل وأمثاله يستحقون أعظم التقدير وآكد الترميز؛ وهم أحياء يرزقون، ويستحق المجتمع علينا أن ننبهه إلى مآثرهم وهم أحياء شهود بيننا.
إن في ذلك التكريم تربية للمجتمع؛ تريه المنائر التي يستهدي بها؛ وترفع في وجهه المعالم التي ترفع همته؛ وتنير بصيرته، وتقام بها الحجة على الفسدة؛ رجالَ أعمال كانوا أو ساسة أو قادة رأي أو صناع قرار.
ومن باب ذكر المنن المشعرة بحمد الله؛ أذكر أني قابلت الرجل مرة واحدة في دارته العامرة؛ فصدق الخبر الخبر، ولو كان ذلك بعد قراءة مذكراته لكنت أولى بإنشاد قول المعري فيه:
كانت محادثة الركبان تخبرنا *** عــن أحمد بن علي أطيب الخبر
ثم التقينا فلا والله ما سمـعت *** أذني بأحسن مما قد رأى بصري