الشيخ محمد محمود الجودة؛ المعلم حيا وميتا
"أخي الشيخ أحمد تحتاج هذه المدينة مشاريع علمية محظرية وجامعية، وتحتاج ترشيدا لحراكها الدعوي الكبير"، قالها بحرقة وأسى ملخصا حديثا طويلا جرى بيننا في إحدى ليالي رمضان 2017، ونحن نمشي على رصيف كْرَاعْ النصراني بعد التراويح، سألته أثناء تلك المسيرة عن حال الدعوة والعلم في العاصمة الاقتصادية، حدثني حديث العارف الخبير، لاحظت إلمامه الواسع بما يجري في تلك المدينة الزاخرة بالحركة والحياة، أسماء وأصناف وأفكار الدعاة والعلماء الذين ينشطون فيها، الفاعلون السياسيون والاجتماعيون والنقابيون، الصحافة والحركات الشبابية وغير ذلك كثير، لكنني دهشت حينما بدأ يحدثني عن رجال الأعمال والمؤسسات وغيرها من مجالات كنت أظن الشاب العالم المنشغل بالدعوة والمتصوف في قراءة دقائق الفقه بعيدا عنها.
كانت تلك هي الليلة الثانية التي يتاح لي فيها حديث انفرادي طويل مع فقيد العلم والدعوة أخينا محمد محمود الجودة، ذلك الشاب الداعية العالم المتوقد ذكاء وحيوية مع رزانة وسمت لا تخطئهما عين المُجالِس، كانت لقاءاتنا السابقة في نواكشوط عابرة جدا، لم أتعرف خلالها عليه، كانت الليلة الأولى التي جالسته فيها طويلا بدايات شتاء 2009 - إذا لم تخني الذاكرة -، وكانت تلك المرة الأولى التي أزور فيها مدينة نواذيبو عابر سبيل باتجاه المملكة المغربية، أيام الدراسة، استضافني في شقة لست أدري الآن أين تقع بالضبط.
اكتشفت في تلك الليلة روحه الزكية وغزارة علمه وخفة مزاجه، ناقشنا بعض القضايا المطروحة في الساحة الدعوية؛ الموسيقى، مبالغة المحجبات في جمال وتناسق ألوان الملحفة والحجاب والعباءة، تزيين ما يجوز كشفه للمرأة وحضورها المجالس العامة به، وقضايا أخرى، فوجئت بأن محاوري يستدل بكلام كبار فقهاء المالكية معضدا به نصوص الوحي، لم تبق بيدي حيلة، وأنا الذي لم أذق طعم حديث الفقهاء وتدقيقاتهم العلمية الرائعة، كنت شدوت آيات وأحاديث وكلاما عاما لبعض المفكرين ورؤية دعوية فقط، كنت أستثيره لأستخرج ما عنده، وكان بحرا لا يُنْكَش.
لنعد إلى الليلة الثانية، خلال مسيرنا في تلك الليلة الرمضانية تحدثنا عن أهمية فتح فرع لإحدى الجامعات الحرة في نواذيبو، وكان - فيما يبدو - قد فكر في المسألة قبل ذلك، لذلك كانت رؤيته حولها ناضجة ومستوعبة، عرفت من خلال تلك المحاورة أن منهجه الدعوي قائم على نشر العلم بدل التوجيه المجرد، وعلى سد الثغرة بدل تكرار الجهود، صرح لي أثناء حديثنا أنه يخطط قبل كل إجازة لمجموعة من الدورات العلمية، ويستهدف بها التجار والعمال وغيرهم من فئات لا تجد الوقت لتعلم العلم، ولا يجدها الدعاة دائما، كان يعشق تعلم العلم وتعليمه، وحدثني عن بعض مطالعاته ومشاريعه العلمية، أكبرت فيه هذه الهمة، وزاد قدره في عيني، فقد كنت أنظر إليه قبل ذلك شابا داعية مثل أقرانه، ولكنه كان أكبر منهم جميعا همة وإرادة وتوفيقا.
حينما علمت - بعد وفاته بقليل - أن إخوة وأحبة وشيوخا للفقيد قرروا تأسيس مركز علمي باسمه في نواذيبو؛ تذكرت قصة ثابت البناني فقد كان رجلا مهووسا بالصلاة، ودعا الله أن يرزقه الصلاة في قبره، وقد روي أن تلاوة القرآن كانت تسمع من قبره، روى أحد الذين دفنوه، قال: "أنا - والذي لا إله إلا هو - أدخلت ثابتا البناني لحده، فلما سوينا عليه اللبِن سقطت لبنة (يعني حجرا)، فنـزلت فأخذتها من قبره، فإذا به يصلي في قبره، قال: فقلت للذي معي: أتراه؟ قال: اسكت، فلما سوينا عليه التراب، وفرغنا أتينا ابنته فقلنا لها: ما كان عمل ثابت، ماذا كان يفعل في هذه الدنيا؟ قالت: وما رأيتم؟ فأخبرناها، فقالت: كان يقوم الليل خمسين سنة فإذا كان السحر قال في دعائه: "اللهم إن كنت أعطيت أحدا الصلاة في قبره فأعطنيها، فما كان الله ليرد ذلك الدعاء"، فلعل فقيدنا الجودة دعا الله بأن يستمر تعلميه الناس بعد موته، فقد كان عشقه التعليم.
أتذكر هذه القصة اليوم، وأنا أرى صور وفيديوهات افتتاح "مركز الجودة للعلوم الشرعية" في نواذيبو، ولدي يقين أن هذا المركز استجابة لدعوة كان الفقيد يدعو الله بها، وكان يعمل لأجلها في حياته، أن ينشئ مؤسسة علمية رائدة في هذه المدينة التي أحبها وأحب أهلها، وأحب لهم الخير، وبذل في سبيل توجيههم وإرشادهم وتعليمهم أوقات ثمينة من عمره المبارك.
بارك الله في القائمين على هذا المركز وفي الباذلين فيه وفي الملتحقين بدعم مشروعه العلمي من طلبة العلم والأساتذة ورجال الأعمال.
رحم الله أخي محمد محمود الجودة الداعية الحصيف والعالم الشاب رحمة واسعة، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية.