مأمورية الشباب أم مأمورية الإقلاع؟
احتدم النقاش مكتوبا في وسائل الاتصال الجماهيري، كما على صفحات التواصل الاجتماعي، أو حتى بكل بساطة من خلال نقاش شفهي مباشر، وذلك بعد ما حظيت به قضايا الشباب من اهتمام - في محله - وإبراز دوره الرائد في نهضة المجتمعات والشعوب، من طرف رئيس الجمهورية أثناء حملته الرئاسية الأخيرة.
من الطبيعي أن يختلف الجمهور المتلقي حول فهم ما صدر عن الرئيس، وهكذا فقد يفهم البعض من شعار "مأمورية الشباب" أن حكومة المأمورية الثانية المنتظرة ستكون حكومة شابة في غالبيتها العظمى على الأقل، بينما قد يفهم البعض من ذلك شيئا آخر مخالفا تماما لما فهمه الفريق الأول.
وقبل تناول هذه المسألة بمختلف جوانبها، نود التذكير بالأمور التالية:
أولا: أن شريحة الشباب - كشريحة مستقلة - لم تكن يوما من ضمن الشرائح التي أسند إليها كبار المفكرين دورا حاسما في عملية التطور التاريخي والاجتماعي، وقد ظل ذلك متأرجحا بين مقولتين:
1. النخبة، كما كان الأمر عند المفكر الألماني "ماكس فيبر" ومن نحا منحاه من المفكرين الذين اعتمدوا على التحليل النخبوي، من أمثال "بارتو" الإيطالي و"بوتومور" و"رايت ميلز". وتجدر الإشارة هنا إلى أن النخبة يمكن تقسيمها إلى نخب: مثقفة "إنتلجانسيا"، عسكرية أو تجارية.. الخ.
2. الطبقة كما هو الحال بالنسبة لـ"كارل ماركس" وغيره ممن يرون أولوية التحليل الطبقي فالطبقة العاملة أو "لبروليتاريا" المسحوقة من خلال صراعها مع الطبقة البورجوازية المهيمنة هي التي تحرك التاريخ وتصنع الثورات الاجتماعية والسياسية.
وقبل هذين المنهجين في التحليل، كان المنهج المثالي هو المنهج السائد، وهو الذي يفسر كل تطور للوجود في ضوء الجدل المثالي للفكرة المطلقة. وهو المتمثل في قانون الجدل عند "هيكل": الأطروحة ونقيض الأطروحة يؤدي إلى تركيب.
ومن خلال هذا القانون تتجلى الفكرة المطلقة وتحقق إمكاناتها في التاريخ إلى أن تجسدت سياسيا في ملك النمسا "فريدريك الثالث" وفلسفيا في فلسفته هو وبذلك يتوقف الجدل فجأة. ويعد هذا من المآخذ على فلسفة "هيكل".
يجب هنا قبل أن نتجاوز هذا المقام وإنصافا للشباب أن لا نغفل تلك الحقيقة التي جعلت الشباب والمنظمات الشبابية تنال حظا من الاهتمام الاستثنائي - ربما - ويطرح لها حساب في الفعل التنظيمي السياسي والثقافي لدى كلي الطرفين: اليمين الليبرالي واليسار الاشتراكي.
ثانيا: الشباب له أولوياته بغض النظر عما يحضر له الفاعلون السياسيون والاجتماعيون ويسعون لتوفيره له، فما هي إذا أولويات الشباب؟
1. على رأس أولويات الشباب التمدرس الصحيح، ويقتضي ذلك أن تكون الجامعات والمعاهد في البلد قادرة على تخريج أفواج مسلحة بما يلزم من المعارف والخبرات، تجعلها قادرة على الولوج إلى سوق العمل والمنافسة فيه وأكثر من ذلك الابتكار، الخلق والإبداع. إن التأهيل الأكاديمي والفني عندنا ما يزال متواضعا إلى درجة كبيرة وهذه حقيقة لا ينبغي القفز عليها.
2. إن من أولويات الشباب الملحة، ما يتعلق ببرامج التشغيل لتكون قادرة على تلبية حاجات وطموحات الأجيال الشابة من خلال فرص تشغيل متنوعة ومتكافئة.
3. من أولويات الشباب كذلك تنظيم مسابقات للحصول على وظائف في القطاعين العمومي والخصوصي والتخلي عن ممارسات من نوع: العمال الدائمين، مقدمي الخدمة، وأخيرا العقود القابلة للتجديد أو بآجال غير محددة والتي ليست إلا عمليات تحايل للاكتتاب حسب معايير الزبونية والقرابة، هكذا تضخ دماء جديدة في الإدارة ويتدرج الشباب في الوظائف مكتسبين المهارات من خلال تراكم التجارب والتكوينات.
4. من الحاجات الماسة بالنسبة للشباب، الرعاية وصقل المواهب وتطويرها، كذلك تنظيم الشباب في نوادي ومنظمات ثقافية ورياضية، ومحاربة كل ما من شأنه أن يؤثر على عقل أو جسم الشاب كالمخدرات والكحول مثلا، وتوفير الرعاية الصحية للشباب من خلال تطوير البنايات الصحية للبلد.
دعونا قليلا نتوجه بهذا السؤال للشباب: أليست هذه هي جل أولوياتكم الملحة، ومشاكلكم الكبرى؟
بعض الشباب - قد لا يكون من بين الأذكى، ولا الأبعد نظرا ولا الأكثر موضوعية - قد يجيب بـ"لا! إنما نريد أن نحرق المراحل ونتسلق المناصب السامية؟ بل نريد أن نحجز لنا أماكن في الحكومة المنتظرة، والتي نريدها حكومتنا الخالصة!!".
حتى ولو لم تنضج تجاربكم، ولم تتراكم معارفكم وخبراتكم بعد؟، "حتى ولم يكن كل ذلك، نريد لنا أماكن في الحكومة هنا والآن!!!".
طيب.. طيب! ألا تخشون أن ترموا بالوصولية والانتهازية وعدم الموضوعية؟ على رسلكم، ما ذا تستعجلون؟
لن تجد أجوبة على هذه الأسئلة إلا الأجوبة الطوباوية والإيديولوجية. الخطاب الطوباوي والإيديولوجي حسب "كارل مانهايم" يتحدان في الوظيفة التي هي التستر وإخفاء التوجهات والممارسات الحقيقية لأصحابهما، ويتمايزان فقط في المصدر، فمن يحكمون يصدر عنهم خطاب يسمى إيديولوجيا، ومن لا يحكمون يصدر عنهم آخر يمكن تسميته طوباويا.
يجب أن لا نبتعد عن هذا السياق قبل أن نقف ولو قليلا عند الحكمة الإلهية التي اقتضت أن لا يُرسل سبحانه وتعالى رسولا حتى يصل سن الأربعين، خصوصا أن منظري (مأمورية الشباب) يحددون سن الشباب في الفئة العمرية ما بين 18 - 35 سنة.
يرسل الله تعالى رسله الكرام عند بلوغ الأربعين وقد اصطفاهم وسلحهم بعنايته وأمامهم مشوار الدعوة الطويل قبل أن يصلوا مراحل أخرى والتي ربما استغرقت العقد أو أكثر حتى تصل ألف سنة إلا خمسين عاما كما هو الشأن بالنسبة لسيدنا نوح عليه السلام.
يقول الشاعر العربي:
أخو الخمسين مجتمع أشدي *** ونجذني مداورةُ الشؤون
يجب الانتباه إلى أن الأشد عند الأربعين، واجتماعه عند الخمسين حسب الشاعر، ولكن الانتباه خصوصا إلى هذا الشرط وهو مداورة الشؤون.
والآن، إلى أولياء الأمور وأجهزتهم التنفيذية والتشريعية، وأعوانهم العسكريين ورجال الأمن، وإلى قادة الرأي والأوساط الأكاديمية وجماهير الشعب الموريتاني نتوجه بهذا السؤال: ماذا تريدون لهذه المأمورية.. أن تكون مأمورية للشباب أم مأمورية للإقلاع؟
يتواصل..