موريتانيا بين التاريخ والذاكرة تجربة مثقف في دهاليز السلطة
صدر حديثا عن دار جسورعبد العزيز كتاب "موريتانيا بين التاريخ والذاكرة، 1944- 1989م للدكتور الوزير والسفير السابق محمد المحجوب ولد محمد المختار ولد بيه.
والكتاب يروي بشكل شيق على مدى 552 صفحة بخط واضح وحجم متوسط قصة تجربة مثيرة لمساهمة مثقف موريتاني تعايشت في شخصه قيم الصوفية مع مثاليات الفكر القومي والأممي في صناعة أحداث محورية في تاريخ موريتانيا المعاصر.
سادس ستة
معلومات مثيرة تنشر لأول مرة عن انقلاب العاشر من يوليو، فالمؤلف سادس ستة هم النواة الأولى التي خططت لذلك الحدث الفارق في تاريخ الدولة الموريتانية الوليدة.
نتعرف عن قرب من خلال الكتاب على شخصيتين كان لهما دورهما المحوري؛ هما الرائد جدو ولد السالك، وسيد أحمد ولد ابنيجارة، ويكتب المؤلف تحت عنوان "جدو ليس انقلابيا" "يردد البعض أن الرائد جدو كان يفكر في القيام بانقلاب منذ كان تلميذا، والذي أعرفه أنني شخصيا لم أسمع منه ذلك ..ولا أظن أن شخصا شجاعا كجدو يفكر في دخول الجيش ليكون انقلابيا، فشهامته الشخصية تأبى هذا، كما يأباه نبل مهام الجيش وعقيدته في الدفاع عن الأوطان..وأعتقد أن الظروف هي التي أملت على جدو ومن معه ضرورة إنقاذ البلاد ولو بانقلاب" ص 136.
ومع أن المؤلف من باب الموضوعية لا يرى في العاشر من يوليو ثورة بل هو انقلاب، الا أنه حدث تاريخي هام لم تعرف له البلاد نظيرا، ص 120.
وأسباب العاشر يوليو كانت وجيهة في نظر المؤلف، فالبلد كان يعيش انهيارا شاملا، ساد الذعر بعد أن وصلت هجمات الصحراويين جل مدنه ..وعم الرعب وكسدت التجارة وتآكل احتياطي البنك المركزي من العملات الصعبة، وتوقفت المشاريع الوطنية الناشئة...بل وبدأ التفكير جديا في التوقف عن متابعة إصدار العملة، وكانت معنويات الإدارة في الحضيض.
كتب يحي ولد عبدي مدير الأمن الوطني أن الجهات الأمنية رصدت مؤشرات كثيرة، وكانت تبلغ بها النظام دون تفاعل، مما جعله يتساءل إذا كان الرئيس المختار يفضل أن يقع الانقلاب؟! ص 131.
لقد خطط حملة العاشر من يوليو باحكام لمشروع الانقلاب، وتسارعت خطواته بعد تبني العقيد المصطفى ولد محمد السالم قائد الأركان الوطنية له وتحمله مسؤوليته فيه بكل شجاعة.
وقد لعب الدكتور المحجوب دورا بارزا حيث كان عليه غداة الانقلاب أن يعمل، نظرا لعلاقته الحميمة مع جبهة البوليساريو والجزائر، على إيقاف العمليات العسكرية مع موريتانيا، "لأن الضباط والجنود لا تسمح لهم كرامتهم بإدارة ظهورهم للرصاص حتى ولو كان من الأشقاء"، حسب تعبير الرائد جدو، ص 148.
وغداة الانقلاب كان المحجوب بن بيه في باريس يقدم صورة الانقلاب للإعلام العالمي، معرفا الانقلابيين بأنهم "ضباط وطنيون لا ينتمون سياسيا إلى أي حزب، وهم ليبراليون حسب تكوينهم، ومن خريجي المدارس العسكرية الفرنسية، ومدعومون من عناصر مدنية بعضها يتولى مناصب عالية في النظام المطاح به، والهدف هو انتشال الوطن من براثن حرب الأشقاء، وانقاذ الاقتصاد الوطني من تأثيرات الحرب والجفاف، وإقامة نظام ديمقراطي "ص 153.
انقلاب على الانقلاب
ولكن انقلابا تم على الانقلاب منذ البداية، لأن الضابط الذي كان أول من فكر في الانقلاب وخطط له واجتذب له زملاءه، وهو جدو ولد السالك وضع في الصف الثاني من القيادة في لجنة الإنقاذ، فعطل ذلك ماكان لديه وصحبه المقربين من خطط إصلاحية طموحة، ص160.
ويلتمس المؤلف العذر للرئيس المصطفى ولد محمد السالك بأن دافعه في إبعاد جدو هو حرصه على الانضباط العسكري ومشاركة الضباط في السلطة حسب الرتب مما كان له الأثر الإيجابي.
ويخلص المؤلف إلى أن العاشر من يوليو لم يكن خيارا بل كان ضرورة حتمية، وأن قرار الحرب هو الذي شكل نكوصا عما تم إنجازه من قبل ولد داداه قبل 1975 من إصلاحات وطنية، ص 171.
"ومن الإنصاف عدم أخذ أهل العاشر يوليو أو الحركات السياسية من ديمقراطيين أو بعثيين أو ناصريين أو إسلاميين أو من يتعاطف معهم بأخطاء الأنظمة التي تعاقبت على الحكم، لأن هذه التنظيمات لم تحكم موريتانيا أبدا بعد العاشر من يوليو كما يروج لذلك بعض الناس، لقد كان التأثير على رؤسائنا العسكريين في بعض المراحل يأتي أساسا من بعض الضباط متوسطي الرتب، ثم في مرحلة تالية بعض أفراد القبيلة، ثم يشكل هؤلاء وأولئك حلقة حول الرئيس ويبعدونه عن نظرائه من كبار الضباط بزرع الشكوك حولهم، ويحذرونه من أي مدني يحمل فكرة أو فكرا، وعندما تتم عزلته وتتفاقم الأخطاء وتتدهور الأوضاع في كل الميادين ينقض عليه بعض نظرائه وتنطلق المظاهرات المؤيدة للتغيير...
ان مجموعة العاشر يوليو حضرت الانقلاب ونفذته لأسباب وطنية، وساهمت في الأنظمة العسكرية وشبه المدنية المتعاقبة، ولكن القرار السياسي لم يكن يوما بيدها، لقد تفرقت هذه المجموعة بعيد الانقلاب، ولم يبق يجمعها إلا علاقات شخصية بين بعض أعضائها، ص172.
شكل انقلاب أحمد ولد بوسيف 6 أبريل 1979 ضربة للمجموعة المؤسسة التي كانت تحضرمع الرئيس المصطفى ولد محمد السالك لإنشاء مؤسسات دستورية مدنية.
وجاء في نص بيان اللجنة العسكرية للخلاص الوطني "أن القوات المسلحة ارتكبت خطأ مقاسمة السلطة إن لم يكن الأمر يعني أكثر من المقاسمة مع سياسيين قدماء وشبان مثاليين، وما لبثت عيوب أولئك وعدم تجربة هؤلاء أن انحرفت بالسلطة عن هدفها الأساسي ...وبعد تحليل معمق فإن القوات المسلحة ستمارس السلطة ابتداء من الآن وبصورة فعلية" ص 177.
بالنسبة للدكتور المحجوب لم يكن ولد بوسيف رغم أنه جاء من محور "دكار/ باريس/ الرباط" شخصا عاديا، كان ينظر إلى قامته الفارغة ومشيته بخطوات الليث مترسما سمات جمال عبد الناصر، ويختلف المؤلف مع رفاقه الكادحين والبعثيين الذين ظنوا أن المرحوم أحمد ولد بوسيف كان سيعيد النظام السابق، لأنه ليس من عادة من يستولون على الحكم تسليمه لغيرهم، وخصوصا أن هذا “النجم الساطع" كان يرى الرئاسة جاءته تجر أذيالها، وأنها لم تك تصلح إلا له وأنه لم يك يصلح إلا لها، ص 190.
وكان المؤلف يتوقع أن ولد بوسيف لن يعود للحرب، وسيعيد التحالف مع جدو والنواة العسكرية والمدنية للعاشر من يوليو، ولكنه غادر المشهد سريعا في حادث الطائرة الأليم.
وفي خضم معارضة البعثيين والكادحين النظام أنشأ المؤلف ورفاقه حركة التحرير الموريتاني "حتم"، التي فكرت في بعض المراحل في حمل السلاح، وهنا يوجه الدكتور المحجوب نصيحة تحت عنوان "التاريخ من أجل المستقبل" أن على أي نظام يريد أن يجنب بلاده مخاطر قد تعصف بها أن يبتعد عن الإقصاء أيا كان شكله، بل عليه أن يكون منفتحا ومنصفا وعادلا وحتى محسنا..لأن إقصاء فئة اجتماعية أو مجموعة سياسية يولد الجفاء والخوف مما يسبب الحقد والعنف والمغامرات التي قد تضر صاحبها ووطنه وأمته " ص 201
ولايكون ذلك إلا بممارسة صادقة وفعلية للديموقراطية أو الشورى أو أي اسم آخر يحمل تلك المضامين، ص 202.
ولو أن مجموعة العاشر من يوليو أخذت الأمور من أول يوم بجدية، ومارست النقد الذاتي، وتجاوزت خلافاتها وما ارتكبته من أخطاء في الليلة الأولى للانقلاب وما بعدها، وضبطت أمرها لما حدث ما حدث من انقلابات، ص 203.
المفاوضات مع البوليساريو
يعرض الكتاب بتفصيل لمفاوضات موريتانيا والبوليساريو والتي كان المحجوب ولد بيه المكلف بمهمة برئاسة الدولة مهندسها منذ البداية، وشهدت توترات ومنعرجات عدة في باريس والجزائر وباماكو ونواكشوط، وانتهت بتوقيع اتفاقية سلام من طرف وفد برئاسة المقدم أحمد سالم ولد سيدي 5 أغسطس 1979، وهي المرة الوحيدة التي كان فيها محمد المحجوب ولد بيه غائبا عن المفاوضات، حيث كان رأيه أن يشهد المجتمع الدولي على الاتفاق.
وهنا يسطر المؤلف شهادة بحق الرئيس هيدالة، فقد كان شديد الحرص على السلام، ومن عرفه عن قرب يعرف أنه رجل وطني شهم قوي غير قبلي ولا فئوي، وهو نزيه متواضع يخشى الله، سريع العودة عن الخطأ إذا تنبه أونبه، ويحب الدين وأهله... قام محمد خونه باصلاحات بالغة الصعوبة تحتاج إلى الشجاعة والتضحية؛ كالاصلاح العقاري، وإصدار القوانين المترتبة عليه، كما أصدر أمرا قانونيا بإلغاء الرق 1981..ودخل معارك من أجل إصلاح قطاعي الصيد والتصنيع، وحفر الآبار في كافة أرجاء البلاد، كما أسس جامعة نواكشوط في ظروف صعبة، وأنجز مشروع التلفزة الموريتانية.. ص 335.
ويخلص مهندس ملف الصحراء إلى أن على بلادنا أن تلعب دورا إيجابيا في قضية الصحراء، لأن الحياد الإيجابي لا يعني الانكفاء والاعتزال والانخزال، ويقترح أن تكون البلاد فريقا من العلماء والخبراء في مختلف التخصصات، ويتم تزويدهم بمختلف المعلومات، وأن تصيغ هذه النخبة استراتيجية استشراف ليكون ذلك بمثابة دليل عمل إرشادي لصناع القرار، ولتكوين أجيال جديدة من الإطارات الأكفاء، ص 338.
ويعرض الكاتب لتجربته سفيرا في العراق 1980 والإعجاب الكبير بصدام حسين، رغم قناعته أن الحرب التي جر إليها مع إيران كانت بهدف استنزاف البلدين واجهاض المشاريع النهضوية في المنطقة بكل الأساليب، ص 357.
حكومة ولد ابنيجارة
وعندما قررت اللجنة العسكرية بقيادة هيدالة الوفاء بوعود العاشر يوليو بإقامة حكم مدني اختير سيد أحمد ولد ابنيجارة وزيرا أول، وهوالذي أصر على أن يكون محمد المحجوب ولد بية مديرا لديوانه ديسمبر 1980.
ورغم تمنعه، فقد قبل مع زميله القديم ماسماه "مغامرة من أجل موريتانيا".
كانت فترة قصيرة مشحونة بالصعوبات والضغوط، وكانت لقاءات الأطر متواصلة لدراسة الأوضاع وتحليلها وإعطاء تصورات واقتراحات تساعد أصحاب القرار، وكان بعض الوزراء غير متحمسين، ويسترسل المؤلف: قلت ان علينا تشجيع الضباط المتنورين والمساهمة معهم في إعادة مؤسسات الدولة والسلطة إلى الحياة المدنية كما أسهمنا معهم في توقيف الحرب، ص 376.
وكان شيخن ولد محمد لقظف، هذا الرجل النبيل المجرب الهادئ، ينصح بالتعجيل بإقامة المؤسسات الديمقراطية قبل فوات الأوان، وذلك بتنظيم انتخابات بلدية وتشريعية ورئاسية دون تأخير، وكان البعض يتخوف من سيطرة القوى التقليدية كما وقع لاحقا مع "ديمقراطية لا بول"، حيث هيمنت القوى التقليدية وأصبحت أداة النظام التي ألبست الحكم الفردي لبوس الديمقراطية، وعلل اعل ولد محمد فال لاحقا الأمر أنهم وجدوا القوى الأخرى مجرد عائلات سياسية صغيرة، ضعيفة التمثيل وبطيئة في تعاملها" ص 377
لقد كانت حكومة ولد ابنبجارة قوسا قصيرا فاجأته محاولة انقلاب 16 مارس 1981 الدموية.
حيث حاول أحمد سالم ولد سيدي ومحمد ولد اباه ولد عبد القادر على رأس كوماندوس انتحاري، كما وصفه بيان الحكومة، حاولا الاستيلاء على السلطة بأوامر من المغرب للإطاحة بالنظام الوطني، ص 385.
وكان موقف المؤلف هو الابتعاد عن الشماتة، بل لو كان له رأي لأشار بالحوار بدل الحصار..واختار أن لا ينجر مع المندفعين، و أن يعمل مع الخيرين في الدولة من أجل الوئام الاجتماعي والوحدة الوطنية، ص 395.
وبالإنهاء المبكر لتجربة الحكم المدني فاتت على موريتانيا فرصة القطيعة مع الانقلابات..ولعل من أسباب تراجع الجيش عن تلك التجربة ، في نظر المؤلف، أن هذا المشروع لم يحظ بالتحضير الكافي لا داخل الجيش ولا خارجه، ولم يعبأ حوله الرأي العام الوطني لدعمه ومواكبته وحمايته.
ويسترسل المؤلف قائلا "والحقيقة أن القوات المسلحة لا أمل في خروجها من السياسة مالم تتحقق شروط ذلك، ومن تلك الشروط أن يكون قادتها أقوياء أمناء ذوي مستويات فكرية عالية، ومنها أن يوضع تحت يدها من الموارد ما يضمن لمنتسبيها مستوى معيشيا كريما يمكنهم من القيام بمهامهم الوطنية، ص ..398.
وزير المياه في مواجهة الجفاف
بعد القوس المدني تم تعيين محمد المحجوب ولد بيه يوم 25 ابريل 1981 وزيرا للمياه والإسكان، في فترة تميزت بالجفاف والهجرة من البوادي إلى الريف، ويروي الرجل تجربة عمل لا يكل في حفر الآبار الارتوازية وزيارات ميدانية مرفوقا بالفنيين وآلات الحفر، وساهم الدعم العربي العراقي والكويتي والسعودي والجزائري في دعم حكومة ولد هيدالة، وكان الفريق الفني بدءا بالأمين العام ببها ولد أحمد يورة عونا كبيرا في تحقيق إنجازات هامة، مثل توسعة 45 كلمترا من أنابيب المياه بنواكشوط، و200 تدخل سريع يومها مثل حفر 36 بئرا في الترارزة، وسقاية كيفة من اتيسان، وتمبدغة وكثير من المدن والأرياف، كما تم بناء الكثير من المدارس.
وفي تمبدغة مسقط رأسه يقف محمد المحجوب بعد غياب طويل متمثلا كلام جمال عبد الناصر بعد عودته لقريته قائلا " أنا دون حقائب محملة بالهدايا ولا أحمل الدراريع، ولكني فخور بزيارتكم رفقة وفد عربي من بلاد الرافدين، ص 446.
ويخلص المؤلف بتواضع إلى أن ما أنجز مجرد لبنات في قطاع من قطاعات الدولة، ولا نشك في أنه لا يشكل اليوم "نقطة في جنب ثور"..ولكن الهدف أن يعلم كل جيل أن الحضارة تبنى بالتراكم ..ورغم ما تعانيه بلادنا من تخلف أو نقص في جميع المجالات، وما أعرفه فينا كمجتمع من ضعف وتقصير، فإنني راض عن المسار العام لبلادنا، وأرجو لها دوام التقدم، وأنا سعيد لأننا نشرب ماء نهر صنهاجة في نواكشوط..وها نحن نشرب ماء بحيرة أظهر بتمبدغة، ص 463.
التخوين والوشايات والتدخل الأجنبي
لم تلبث البلاد أن سادتها الاعتقالات والتخوين، يذكر أن القوى الخارجية التي حاولت مرات الإطاحة بالنظام ولم تفلح، استنتجت أنه لا يمكن الإطاحة به إلا من داخله، وأخذت تعمل من أجل تفكيك حلف هيدالة ولد الطايع بالترويج أن ولد هيدالة يؤثر الضباط متوسطي الرتب على كبار الضباط مما يغيظ رئيس الوزراء وضباطا آخرين، ص470.
وطغت الشكوك حتى أن تقريرا صريحا في مجلس الوزراء عن مشاكل المياه اعتبر انتقاصا من أداء الحكومة، وفي غمرة الأداء تمت إقالة محمد المحجوب أغشت 1983، وكانت خيبة أمله كبيرة، يقول "خيل إلي أن الأوراق وما تحمله من آمال طارت بها عاصفة فجأة من فوق المكتب...و كما عبر أحد وجهاء تمبدغة لولد هيدالة: "نحن في حيرة لأننا ما أن يصبح أحد أبنائنا وزيرا ويبدأ مرحلة العطاء وتحقيق إنجازات ملموسة للدولة ولنا إلا وتفاجأنا باقالته..ص 473.
لقد كان للوشاية دورها
كان ما يسمى حلف باريس/ الرباط/ دكار لابد له، دون ضرر كبير بالبلاد، أن يطيح بولد هيدالة، فهناك ما يشبه الثأر منه.
يقول المؤلف "أعتقد أن تلك الفترة تحتاج إلى مؤرخ يتتبعها ليكشف أسرارها، فالتاريخ يبدأ حيث تنتهي السياسة..والفائدة من ذلك أن تحذر بلادنا من تكرار التدخل الأجنبي في شؤونها، فقد يتطور من دعم شخصيات لتحل محل شخصيات أخرى إلى دعم مجموعة عرقية أو جهوية أو فئوية أو قبلية ضد أخرى، وشاهدنا التأثير المدمر لذلك في بعض الدول العربية والافريقية، وعلى أهل هذا البلد أن يكونوا حذرين وأن يحلوا مشاكلهم بالانفتاح والانصاف والعدالة، ص 477.
كيف نخرج من دوامة الانقلابات؟
يقول المؤلف "لعل المؤرخ المنتظر يلخص لنا كتابه بنداء المشفق "يا أهل موريتانيا انتبهوا قبل فوات الأوان، واستبينوا الرشد قبل أن لا ينفع رشد، وإياكم أن تكونوا كاصحاب دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ص 478.
وفي خاتمة الكتاب تحت عنوان "تأملات" يقول الكاتب: "من المفيد أن نعرف الأسباب التي كانت وراء الأحداث الكبرى في بلادنا، لماذا لجأ بعض رجالنا السياسيين إلى الخارج في الخمسينيات من القرن الماضي في ظرف سياسي مصيري؟ ولماذا حرب الصحراء؟ ولماذا 10 يوليو؟ ولماذا 16 مارس؟ ولماذا أحداث ابريل سنة 1989؟ ولماذا حل مجلس الشيوخ 2017 ولماذا؟ ولماذا؟
ويجيب "أعتقد أن أهم الأسباب الكامنة وراء هذه الأحداث وغيرها اثنان: نزوع قيادتنا التي تصل إلى قمة هرم السلطة التنفيذية إلى الانفراد بالحكم، والتدخل الخارجي الذي يشجع كل خلافات داخلية موريتانية، ص 493.
لقد درج الرؤساء عندنا على عدم مشاركة القوى السياسية المنظمة في اتخاذ قرارات السياسة العامة بشكل جاد مهما كان قربها منهم، يستوي في ذلك الحليف السياسي والحزب الحاكم أو المحكوم باسمه، لأنهم لم يصلوا إلى السلطة من رحمه بل هو جهاز كونوه من داخل السلطة للدفاع عن سياستهم وتنفيذ قراراتهم..وأنظمتنا السياسية لا تمارس غالبا فن النقاش والحوار بجدية ونزاهة، ص 495
التاريخ الملتزم
يعتبر كتاب الدكتور محمد المحجوب ولد بيه "موريتانيا بين التاريخ والذاكرة" إضافة هامة للمكتبة الموريتاتية، وهو رغم كونه عملا يقع في المسافة ما بين التاريخ والمذكرات إلا أنه رجع في مرات عديدة إلى المذكرات التي كتبت قبله، وخصوصا مذكرات الرئيس المختار ولد داداه، وولد هيدالة، ومحمد عالي شريف، ويحي ولدعبدي..كما فيه إحالة لمذكرات سينغور والملك الحسن الثاني.
والكتاب مرجع غني بالوثائق الأصلية لجولات المحادثات الموريتانية مع البوليزاريو والملاحق والبيانات والمناشير والصور..
ورغم أن الكتاب ينتمي إلى ما يسميه المؤلف ب"التاريخ الملتزم" أو "التاريخ من أجل المستقبل" فإن الشخصية الأكاديمية للمؤلف ونظرته الإنسانية طبعت الكتاب بروح موضوعية ركزت على الاعتراف بالأخطاء، وتقديم صورة إيجابية ثمثل الوجه الآخر لشخصيات وطنية عديدة؛ مثل أحمد ولد داداه وأحمد سالم ولد سيدي وغيرهم، كما يرسم المؤلف صورة مقربة لشخصيات عربية عايشها الرجل مثل صدام حسين، وهواري أبو مدين، والملك خالد ولد عبد العزيز، و قادة جبهة البوليساريو.
والكتاب غني باللوحات المعبرة عن البيئة الاجتماعية، والطبيعية، والنكت، والأشعار الشعبية، والفصيحة، التي تعبر عن تلك المرحلة.
وهو علاوة على ذلك مليء بالعبر والتحليلات، حيث لا يخفي المؤلف إعجابه بكل من ابن خلدون، والكواكبي، ومالك بن نبي...
وإذا كان الكتاب في جانب كبير منه تكملة لمذكرات المؤلف عن فترة الشباب التي نشرها قبل سنوات بعنوان "أتذكر"، فإنه يشكل إضافة هامة لسيل المذكرات الذي عرفته البلاد خلال العقد الماضي لشخصيات من جيل التأسيس، مثل المختار ولد داداه، ومحمد خون ولد هيدالة، ومحمد عالي شريف، ويحي ولد منكوس، ومحمد المختار ولد اباه، وأحمد كلي ولد الشيخ سيديا..
ورغم أن الأحداث التي يتناولها الكتاب مازالت حية، وبعض شخوصها فاعلون في المشهد، فإن من حقنا أن نحلم بدراسة أكاديمية مقارنة لهذه المذكرات للخروج بقراءة موضوعية للأحداث، كمافعل الراحل"بيير بونت" عندما قدم دراسة انتربولوجية بناء على مقارنة روايات الأصول البيظانية..
ومع ذلك فإن كتاب محمد المحجوب ولد بيه يعتبر إضافة نوعية، جاءت في وقتها، لتؤكد أن موريتانيا اليوم وهي مقبلة على "مأمورية الشباب" بحاجة لاطار فكري أو تشاوري يجعلها تستفيد من حكمة الكهول..
لأن الخلاصة التي توصل لها الدكتور المحجوب هي أن البلاد بخير دامت تعتمد التشاور والحوار والتنوع في الآراء، والشر كل الشر في الأحادية والانغلاق والانفراد بالرأي.