بحثا عن الذاكرة الوطنية
الماضي والحاضر والمستقبل أبعاد متداخلة ومتشابهة. ولا يوجد حاضر بدون ماض ولا مستقبل بدون حاضر. وتمكّن الذاكرة التاريخية لأي شعب من الوعي بالهُويّة الجماعية وتؤسّس للشعور بالانتماء المشترك الذي ينتقل من جيل إلى جيل.
وتعتبر الذاكرة والهوية الوطنيتان مفهوميْن متلازميْن. ولا ينبغي أن تغيّرهما حوادث الزمان لأنهما زاد ثمين علينا أن نحافظ عليه باستمرار.
في موريتانيا، يُلاحظ بعض الوهن في الترابط ما بين الماضي والحاضر. ذلك أن الأواصر التي تربطنا بماضينا قد انبترتْ، ولم يبق في الأذهان سوى حثالة من ذكريات الماضي المجيد.
وإذا ما استثنيْنا، على سبيل المثال، تسمية فريقنا الوطني لكرة القدم (المرابطين) ومنارة مسجد شنقيط التي تُعرض نماذج مجسّمة وصور منها في العديد من الأماكن لا سيما على اللوحات التجارية والأوراق النقدية، يسود الغموض في اللاوعي الجمْعي عند استدعاء وقائع من الذاكرة الوطنية.
رموز في سلة المهملات
في فترة أقرب، تم التخلّص من بعض رموز استقلالنا الوطني مقابل حفنة من النقود. فقد تُركت الفيلا الصغيرة التي كان يقيم فيها المختار ولد داداه الأب المؤسس للدولة، في ستينات القرن الماضي، عرضة للإهمال قبل أن تُحوّل إلى دكاكين تجارية متواضعة، رغم أن هذه الفيلا الصغيرة تكتسي بالنسبة للكثير من الموريتانيين بعدا وطنيا.
وعلى سبيل المقارنة، نشير إلى أن الزنزانة التي سُجن فيها نالسن مانديلا بجزيرة روبن تمت المحافظة عليها بحالها باعتبارها مكانا للذكرى ومَحجّةً تُشدّ إليها الرِّكاب.
وهناك موقع آخر للذاكرة الوطنية سقط في مهاوي النسيان، ألا وهو السقيفة التي أعلن تحتها استقلال البلاد. فقد حُوّلت هذه السقيفة إلى مستودع للتخزين.
ينبغي القيام بترميم هذه المعالم وإعادتها إلى حالتها الأصلية مع وضع لوحات تذكارية عليها.
وقد يكون من الأمثل تهيئة ساحة أو فناء عند مدخل هذه الأماكن. ويمكن توسعة الساحة بإزالة المنازل المُصاقِبَة لها على أن تقوم الدولة بتعويض الجيران المعنيين تبعا لسعر السوق.
وباستطاعة التلاميذ أثناء الخرجات المدرسية أن يكتشفوا هذا الجانب المهم من التراث الوطني.
لقد آن الأوان أن ننفض الغبار عن هذه الكنوز المطمورة ضمن مشاهد حضرية غير متناسقة. ومتى تم إبرازها للعيان وصقلها وتزيينها فإنها ستستعيد بريقها وألَقَها العتيق ومكانتها في الذاكرة الوطنية كإهداء من السلف إلى الخلف.
وما دمنا قد تعاملنا بهذا الشكل مع رموز وطنية تعود إلى ستين سنة فقط فما بالك بذاكرة البلاد في الماضي السحيق؟
إعادة فتح أرشيف الذاكرة الوطنية
لسدّ هذه النواقص ولتلافي هذه الفجوات الخطيرة، كان على الدولة أن تلجأ إلى الوسائل التعليمية: إما عن طريق سرْد الملاحم الوطنية في كتب التاريخ، وإما بواسطة الأعمال الدرامية (وبالأخص الأفلام السينمائية). وبالجملة، الرجوع إلى ما يمكن تسميته بأرشيف الذاكرة الوطنية.
نحن في موريتانيا انتبهنا أخيرا إلى ضرورة كتابة أو إعادة كتابة تاريخ البلاد. وقد بُذلت جهود في هذا الصدد لكنها ما تزال دون المأمول. وهو تقصير يُؤسف له خاصة إذا ما علمنا أن الباحثين في التاريخ عندنا لا يتفقون على الأحداث الجديرة بحمل الصفة التاريخية. ويعني ذلك أنه لا يوجد إجماع بشأن السرديات التاريخية. فحكاية الأحداث تخضع لعوامل خارجة عن الوقائع التاريخية تحرّفها تبعا للانتماءات القبلية والجهوية للمؤلفين، مما يوجّهها إلى وجهة منحرفة.
وللتمثيل على ذلك نسوق معركة أم التونسي التي يعتبرها بعض المؤرخين الموريتانيين – بالحق أو بالباطل – من أعمال المقاومة ضد المحتل الفرنسي.
وبالمقابل، يرى مؤرخون وطنيون آخرون أن هذا التأويل ليس له سند تاريخي. فأين الحقيقة؟ الدولة وحدها هي التي يمكنها حسم هذا السجال.
فالمقاربة البحثيّة (المحرّفة أصلا) لا تستطيع بمفردها أن تستجْلي الوقائع التاريخية بموضوعية.
أما النظر إلى الذاكرة الجمْعية من زاوية السينما في موريتانيا فيصطدم بفراغ هائل. وهذا هو الموضوع الذي نتطرّق إليه في هذا المقال.
فلو استثنيْنا عددا قليلا من الأفلام الوثائقية القصيرة أغلبها بالأسود والأبيض، مستخرجة من الرفوف المغبرّة، فلا شيء على الإطلاق تم إنجازه على صعيد الفن السابع. ومع ذلك، فالسينما هي الوسيلة المثلى لإشاعة الذاكرة الجماعية لأي شعب وترسيخها في الأذهان لتظل حاضرة على مرّ الأيام.
السينما والذاكرة الوطنية
لقد أصبح العالم الذي نعيش فيه يزخر بالصور. فهو عالم مصوّر بامتياز. وبالفعل، "تعتبر السينما أبرز مكان لاستعراض الذاكرة الجمعية حيث إن وظيفتها تتمثل في نقل ذكريات الماضي إلى المعاصرين والأجيال القادمة وفي ترسيخ الهوية المشتركة". كما تشكل السينما أرشيفا حيا للذاكرة الجمعية. "فالسينما تستخدم الكاميرا لتسجيل الزمن الحاضر وكذلك لإحياء الماضي".
في موريتانيا، لا نكاد نجد أي حضور للسينما كأداة لحفظ الذاكرة الوطنية. وبالتالي، يتعيّن الانطلاق من الصفر. ومع ذلك، لا مناص من استيعاب معطى أساسي: فبلد بلا ذاكرة بلد بلا روح.
لسدّ هذا الفراغ يتحتّم على الدولة أن ترعي إنتاج فيلم طويل يتناول المقاومة في مواجهة الاحتلال الفرنسي، على أن تتلو هذا الفيلم – كما نأمل – إنتاجات أخرى تَتْرَى، طويلة أو قصيرة.
فنحن لدينا منتِج سينمائي ذو شهرة دولية. وقد نالت منتجاته، مثل فيلم "تونبوكتو" جوائز في العديد من المهرجانات الدولية. ويتعلق الأمر هنا بالسيد عبد الرحمن سيساغو.
وهو الجدير بأن يتولى هذه المهمة الوطنية السامية. وينبغي أن تُسند إليه قيادة أعمال الفيلم المقترح: من حيث الإنتاج، والسيناريو، والتصوير، وتركيب المشاهد، واختيار مواقع اللقطات، وانتقاء الممثلين والممثلات. ويبقى البحث عن تمويل هذا المشروع.
يمكن أن تتولى الدولة التأمين واللوجستيك. أما تمويل الفيلم بحد ذاته، فسيتكفل به رجال الأعمال الموريتانيون. وبذلك يسدّدون لموريتانيا جزءا من الديْن المستحق عليهم تجاهها.
بإنتاج هذا العمل السينمائي، ستدخل موريتانيا الدائرة الضيقة لبلدان العالم الثالث التي قاومت المستعمر ببسالة. وتجسّد ذلك في أعمال خالدة مثل الفيلم الليبي "عمر المختار" أو الفيلم الجزائري "معركة الجزائر".
ويجدر أن نشير عَرَضا إلى أن هذا الفيلم الموريتاني قد يحمل عنوان "شنقيط" أو "موريتانيا" أو "المرابطون".
إحياء العصر الذهبي للرواية الموريتانية
سيُعهد إلى عبد الرحمن سيساغو أن يختار ممثلين لتشخيص الرموز التي جابهت المحتل الفرنسي ومنها – تمثيلا لا حصرا – الأمير بكار ولد اسويد أحمد، والأمير سيدي أحمد ولد أحمد عيده، والأمير أحمد ولد الديد، والأمير أحمدو ولد سيدي اعل، والشريف سيدي ولد مولاي الزين، وغيرهم من الأبطال الشيوخ والمحاربين الذين استشهدوا جميعا على ساحة الشرف. ولا ننسى المقاومين المتفرّدين مثل البطل المِقْدام محمد ولد امسيْكه.
وفي هذا الاستنفار العام ضد المستعمر، لا يمكن أن نغفل المقاومة البطولية للزنوج الموريتانيين الذين أسهموا بفعالية في معركة التحرير الوطني.
فبدفع قوي من الوازع الديني والوطني، هبّ سكان الضفة الموريتانيون – من هالبولار وسونينكي وولوف – أسوة بإخوانهم في الشمال، ليتصدّوا بكل بسالة للكفار "أعداء الدين الإسلامي".
وعلى الرغم من أن مسقط رأس الحاج عمر لا يقع في موريتانيا، فقد كان رائدا لمقاومة الفرنسيين في شبه المنطقة. وعلى خطى هذا الامبراطور العالم المجاهد، سيناضل أتباعه لاحقا بشجاعة لصد المعتدي الفرنسي.
وقد استلهم المجاهد الكبير مامادو لمين ادرامي ورفاقه هذا الإرث الذي تركه الحاج عمر ليقفوا ببسالة وبقوة السلاح في وجه الاجتياح الفرنسي لموريتانيا. ومن ثمّ كانوا، مثل إخوتهم في الشمال، مناضلين حقا في سبيل الحرية.
ونعود إلى مشروع الفيلم لندعو – من الجانب الفرنسي – إلى إشراك ممثلين أوربيين لتشخيص اكزافيي كابولوني وغيره من ضباط الجيش الاستعماري الفرنسي الذين خاضوا معارك ضد المقاومة.
وينبغي القيام مسبقا بتحديد المعارك وغيرها من أنشطة المقاومة التي جرت فيها مجابهة بين المقاومين الموريتانيين وقوات الاحتلال الفرنسي.
ومن أشهر هذه المواجهات معارك تجكجة، والنيملان، ولكويشيش، وتوجنين، ووديان الخروب، وكصر البركة، والنعمة، وتيشيت، وقلعة كورو (افديرك)، وكذلك اقتحام الجنرال كورو لمدينة أطار بأمر من فرنسا على رأس كوكبة ضخمة من السيارات لبسط السيطرة على المنطقة.
وفضلا عن الإسهام المنقذ لذاكرة البلد المستعادة، سيكون لهذا العمل السينمائي مزية أخرى لا يستهان بها وتتمثل في نقل رسالة بصرية إلى الأجيال الحاضرة واللاحقة. وهي أجيال تفتقر في غالبيتها إلى وشائج ذاكرية تربطها بماضي بلدها.
وفي مجتمع طغت فيه المادة على القيم الأخلاقية، وتلاشت فيه المعالم والصُّوَى على خلفية انحلال خلقي مُقلق، يحتاج الشباب التائهون أكثر من أي وقت مضى إلى تأطير تذكّري ينقذهم من الضياع. وصفوة القول إنه يتيح لهم أن يعيشوا ذهنيا ملحمة الرواية الوطنية.
موسى حرمة الله
أستاذ جامعي
حائز على جائزة شنقيط