موريتانيا: سويسرا إفريقيا؟

قد يبدو هذا الاقتراح الذي أعرضه على عناية المسؤولين غريبا لأول وهلة. بل إنه ربما يتم إهماله باعتباره وَهْمًا تصوّريا.

 

غير أنه في السياق الجيوسياسي في شبه المنطقة الإقليمية الذي أقل ما يوصف به أنه حسّاس، يرى الكاتب أن هذا الاقتراح قد يكون مفيدا ومثمرا. لذا فإننا لا نخسر شيئا إن نحن أوليْناه الاهتمام الذي يليق بهذا الصنف من البناء الفكري الذي لا هدف له سوى خدمة المصلحة العليا للبلد. 
لقد أصبحت الدراسة المستقبلية أمرا لا محيد عنه في أي عملية اتخاذ للقرار. ذلك أنها تتيح الأخذ في الحسبان للمآلات المستقبلية المترتبة على القرار الآني. كما تسمح باستباق الأحداث القادمة وتكوين فكرة محددة عن تطوّراتها المحتملة.

 

من هذا المنظور وبغض النظر عن تقلبات الأوضاع الحالية، بالإمكان النظر في السبل الكفيلة بالوقاية من الأخطار المُحْدِقَة الظاهرة والباطنة والتي من شأنها أن تهدّد مصير موريتانيا أو تقضي على وجودها. فما المقصود بذلك؟ يتعلق الأمر بإدخال معطًى استراتيجي جديد على سياستنا الوطنية.

 

1.    الوضع الدولي للحياد
يتعيّن على موريتانيا أن تستكشف السبل (كل السبل) التي تكفل لها ضمان الحفاظ على حوزتها الترابية، وسيادتها، ووحدتها، ومواردها الطبيعية، وديمومة مؤسساتها.

 

في القانون، تتوفر طريقتان لبلادنا: الأولى تتمثل في الوضع الدولي لحياد موريتانيا على غرار سويسرا. وسنرى لاحقا كيف يجري ذلك. أما الطريقة الثانية –وهي أقل تعقيدا من حيث التنفيذ- فهي الإعلان الرسمي "لحياد دائم من جانب واحد". وهذا هو حال دول مثل مالطا وتركمنستان. ويتم هذا النوع من الحياد انطلاقا من سيادة الدولة على قرارها. وهنا كذلك سنستعرض التفاصيل في الفقرات اللاحقة.

 

 

الحياد السويسري
المقصود هنا هو أن تتمتع موريتانيا بحياد مماثل لحياد سويسرا. وهذا الوضع يضمن سلامة الحوزة الترابية الوطنية وعدم الاعتداء عليها. وبطبيعة الحال، سيتم الاعتراف بهذا الوضع والمصادقة عليه وضمانه من قبل مجلس الأمن في منظمة الأمم المتحدة.

 

عندما نتحدث عن الحياد، ينبغي التمييز بين الحق في الحياد وبين سياسة الحياد. فالحق في الحياد ينظّمه القانون الدولي، وهو معترف به منذ 1907 بموجب معاهدة لاهاي للحياد. ويُطبّق في حالة نشوب النزاعات المسلحة. ويتضمن الحق في الحياد بالأساس واجب اعتزال الصراعات وعدم التدخل فيها وحق الدولة المحايدة في أن تبقى بمعزل عن أي اصطفاف.

 

ومن الأسباب التي قد تدفع موريتانيا إلى الاستفادة من وضع الحياد، يمكن أن نشير من بين أمور أخرى إلى ما يلي:
-    ميل الشعب الموريتاني بطبعه إلى المسالمة؛
-    الموقع الجغرافي لموريتانيا الواقعة كهمزة وصل بين إفريقيا السوداء والعالم العربي؛
-    المحيط الإقليمي المضطرب بل والمتفجر أحيانا (نزاع الصحراء، بلدان الجوار التي تزعزع استقرارَها الحركاتُ الجهادية المتطرفة)؛
-    التنوّع العرقي والثقافي؛
-    الموارد الطبيعية الهائلة التي قد تجعل البلد عرضة لتنافس القوى الأجنبية؛
-    وجود شركات متعددة الجنسيات مثل توتال وبي بي وغيرهما من الشركات الأمريكية.

 

وسيتم إقرار هذا الوضع في مؤتمر دولي تحضره بلدان المغرب العربي، والمجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الإيكواس)، وبعض البلدان الأوربية مثل إسبانيا، والبرتغال، وفرنسا، كما يمكن أن تدعى إليه جنوب إفريقيا، والولايات المتحدة، والهند، وروسيا، والصين. وسيشارك في هذا المؤتمر كذلك الأمين العام للأمم المتحدة، وممثلو الجامعة العربية، والاتحاد الإفريقي، والاتحاد الأوربي، والمؤتمر الإسلامي... 
وسيكون هذا المؤتمر شبيها بمؤتمر افيينا المنعقد سنة 1815 والذي أسّس لحياد سويسرا.

 

المزايا المترتبة على معاهدة الحياد الدولية بالنسبة لموريتانيا
ستُتوّج العملية بتوقيع معاهدة دولية يصادق عليها لاحقا البرلمان الموريتاني. ثم يجري إيداع هذا الصك القانوني –بعد تظهيره من لدن مجلس الأمن– لدى الأمين العام للأمم المتحدة. فما المزايا المترتبة على معاهدة الحياد الدولية بالنسبة لموريتانيا؟
•    وضع حد للتهديدات المحتملة لاستقرار موريتانيا من قبل البوليزاريو؛
•    وضع حد لأي تهديد محتمل بالاحتلال أو الأطماع التوسّعية من قبل المغرب، أو الجزائر، أو مالي، أو السنغال؛
•    استمرار الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي بالقضاء على كل خطر كامن مرتبط بالمشاكل العرقية أو غيرها من عناصر التطرف أيا كان مصدرها؛
•    وأد المحاولات الانفصالية في مهدها؛
•    توطيد دعائم المؤسسات الوطنية؛
•    بثّ مزيد من الطمأنينة في نفوس المستثمرين الأجانب لا سيما المتدخلين منهم في قطاعات المعادن، والمحروقات، والسياحة؛
•    زيادة العائدات المحصّلة على الصعد الاجتماعية، والاقتصادية، والمالية؛
•    ستكون علامة "موريتانيا، سويسرا إفريقيا" مدعاة لجذب المستثمرين من كل حدب وصوْب، لأن هذا الشعار يثير في اللاوعي الشعورَ بالاستقرار والأمان.

 

يمكن تكليف مكتب دولي من الخبراء القانونيين بوضع مسودّة تُعرض على الحكومة الموريتانية. وإثر إقرار وضع الحياد المذكور، ينبغي بطبيعة الحال دمجه في دستور البلاد.

 

ولدعم الترشح لوضعية الحياد، يمكن الاستعانة برعاة دوليين، وعلى الأخص بجامعة الدول العربية، وبالاتحاد الإفريقي، وببعض الدول الأوربية مثل إسبانيا، والبرتغال، وفرنسا...
ولا يخفى أن الحصول على صيغة الحياد المذكورة آنفا لا يخلو من صعوبة، بينما يسهل اعتماد الصيغة البديلة التي تقتصر على إرادة الدولة الساعية إلى الحياد. 

 

2.    الحياد بواسطة الإعلان الرسمي عن "الحياد الدائم من جانب واحد"
كل بلد غير منخرط في نزاع مسلح يعتبر، مبدئيا، بلدا محايدا. غير أن هذا الحياد المؤقت يمكن أن يتحول إلى حياد دائم. ويمكن أن يحصل ذلك إما عن طريق معاهدة دولية كما هو الحال بالنسبة لسويسرا، وإما بواسطة الإعلان الرسمي عن "الحياد الدائم من جانب واحد". وهذا هو ما وقع في مالطا سنة 1981 وفي تركمنستان سنة 1995.

 

فالحياد الدائم من جانب واحد وضع قانوني لبلد يلتزم بأن يتجنب مطلقا الدخول في النزاعات المسلحة أيا كان نوعها.

 

وقد ظهر مفهوم "الحياد الدائم من جانب واحد" في القرن الثامن عشر، ومكّن دولا من أن تحمي نفسها من النزاعات المسلحة ومن أن تعزز الأمن والسلم في منطقتها.

 

ويظل هذا المفهوم واردا في واقعنا الراهن خدمة للعلاقات الدولية السلمية. وتعتمد عليه بلدان متعددة للنأي عن الصراعات وإشاعة روح السلام.

 

وبمقدور موريتانيا أن تستفيد من وضع "الحياد الدائم من جانب واحد". ويتجسد ذلك في اتخاذ قرار سيادي من قبل الدولة المعنية يمكن الاحتجاج به أمام الدول الأخرى.

 

يتعلق الأمر هنا بإعلان رسمي تطلقه الحكومة بمعناها الواسع (رئيس الجمهورية، الحكومة، البرلمان) في الجمهورية الإسلامية الموريتانية معلنة حيادها.

وفيما يلي بعض النقاط البارزة في هذا الإعلان:
•    موريتانيا دولة حيادية تهتم بإرساء السلم والتعاون والرقي الاجتماعي بين الأمم كافة؛
•    موريتانيا فضاء للسلام ورابط للصداقة بين بلدان جنوب الصحراء وبلدان المغرب العربي؛
•    وضع موريتانيا الحيادية يقتضي:
-    الامتناع عن الانضمام إلى أي تحالف عسكري إقليمي أو دولي؛
-    حظر إقامة أي قاعدة عسكرية أجنبية على التراب الموريتاني؛
-    حظر استخدام أي قاعدة عسكرية موريتانية من قبل قوى أجنبية إلا بطلب من الحكومة الموريتانية وفي حالات محددة: الحق في الدفاع عن النفس أو عندما يحصل تهديد للحوزة الترابية أو للسيادة أو للوحدة الوطنية أو لحياد البلاد.

 

وستتم إحالة هذا الإعلان إلى الأمين العام للأمم المتحدة ثم إلى مجلس الأمن والمنظمات الدولية والمشتركة بين الدول.

 

سبق للرئيس المختار أن فكر في هذا الأمر
ذكر لي أحد المعاونين المقرّبين للرئيس الراحل المختار ولد داداه رحمه الله، عندما أحطته علما باقتراحي على المسؤولين تزويدَ موريتانيا بوضع حيادي، أن هذه الفكرة كانت حاضرة عند الرئيس المختار. ثم أضاف أنها وردت في مقابلة مع صحيفة "جون آفريك". ففي رده على سؤال الصحفي: "أي مستقبل لموريتانيا؟"، أجاب الرئيس الأسبق: "أن تصبح سويسرا إفريقيا".

 

وبعد ذلك، اتصلت بالعقيد والوزير السابق سيدي أحمد ولد بابامين، وهو شخصية وطنية رفيعة وكان في وقت من الأوقات مرافقا عسكريا للرئيس المختار، فذكر لي أنه لم يسمع هذه الألفاظ من الرئيس نفسه لكن مصادر موثوقة أكدت له مصداقية نسبة هذه الأقوال إلى مؤسس الدولة.
كثيرا ما كان المختار يقول إن موريتانيا بلد هشّ. وهو بهذا القول يستبق، دون ريب، الأحداث اللاحقة ويريد أن يضع البلد في مأمن من التهديدات المتعددة التي كانت تلوح في الأفق.

 

منوّعات
-    إن إقرار مفهوم الحياد الدائم من جانب واحد سيضع موريتانيا في وضع ملتبس غامض وتجريدي في الآن نفسه لحياد طالما تم التشدّق به دون تجسيده في مضمون ملموس؛
-    سيكون هذا الحياد سابقة في إفريقيا والبلدان العربية؛
-    بالهالة الإعلامية التي سترافقه، ستدخل موريتانيا التاريخ من باب التقاليد القضائية للنزاعات بين الدول؛
-    ذلك أن اسم بلادنا سيترسّخ في يوميات المحاكم الدولية المتخصصة، وفي كليات الحقوق، وفي مصنفات التاريخ بالعالم أجمع؛
-    على الصعيد النفسي، ستبعث موريتانيا رسالة على شكل تحذير وقائي لكبْح جماح الأطماع التوسّعية للبلدان المجاورة، كل البلدان المجاورة.

 

بقلم: موسى حرمة الله، أستاذ جامعي حائز على جائزة شنقيط

 

18 May 2024