وفي قراءة أخرى..
كان باصيرو ديومان دياخار فاي وفيا للغاية لأسلافه، سنغور وضيوف وواد وصال، إذ لم يكد الرجل يضع قدميه داخل القصر الأبيض، المستلقي على رابية في حي "بلاتو" العتيق بدكار، حتى حزم أمتعته ويمم وجهه شطر الضفة الأخرى لنهر صنهاجة،
راهن الكثيرون منذ البداية، على أن الخروج الأول للرئيس الشاب، سيكون صوب الجارة الأقرب، فبين غامبيا والسينغال من القصص والحكايات والذكريات، ما ليس بينها وجارتها الشمالية، لكن الرياح تجري أحيانا، بما لا تشتهي السفن.
تقول أسطورة قديمة، قدم بلاد التيرانجا، إن السنغال تثاءبت ذات صباح، فحشر أحدهم موزة داخل فمها، فولدت "غامبيا"، كلما تأملت خريطة السينغال وتذكرت هذا الوصف الدقيق، قلت لنفسي إن صاحبه، إما أن يكون فنانا عجوزا مرهف الحس، أو أنه قارئ نهم لأشعار أبو عبادة الوليد بن عبيد، المعروف بالبحتري.
هو طقس واحد فقط، عتيق جدا، دأب عليه رؤساء السينغال منذ الأزل، رحلة قصيرة إلى مدينتي طوبا وتيتاون، لأخذ قسط وافر من البركات، وبعدها مباشرة، امتطى الرجل طائرته الرئاسية صوب نواكشوط، حيث تكتظ الرفوف بالملفات المشتركة بين البلدين... كذب من قال إن كل بعيد عن العين هو بعيد عن القلب!؟
لقد كفتنا زيارة ديوماي فاي، كل ذلك الطنين الذي امتلأت به الصفحات والفضاءات والمنصات، ثلة من المحللين السياسيين اليافعين وقليل من باعة الخوف وتجار الغثيان، انبروا ينهشون في تاريخ العلاقات بين البلدين، ويؤلفون أفلام رعب رديئة للغاية، حول المآسي والكوارث التي تنتظرنا في موريتانيا، بعد وصول زعيمي الـ"باستيف" إلى السلطة في السنغال، لقد بات التغيير يرعبنا حتى وإن حصل خارج حدودنا، مع أن التغيير هو سنة هذه الدنيا.
إن ما حدث في السينغال، لا يمكن أن تكون له سوى انعكاسات إيجابية على موريتانيا، فإذا كان السباق الرئاسي عندنا، شبه محسوم لصالح الرئيس الحالي، إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة أخرى دامغة، مؤداها أن الطريق إلى القصر الرمادي عام 2029، الذي يبدأ اليوم وليس غدا، سيكون بسيناريوهات أخرى مختلفة، ولن يكون قطعا مفروشا بالورود والسجاد الأحمر كسابقيه.
يومها، ستكون موريتانيا، التي قطعت شوطا على درب الديمقراطية، على موعد مع التناوب الثاني على السلطة في تاريخها، المكتظ بالمتناقضات السياسية، وسنكون محظوظين للغاية، لو حصل ذلك التناوب من خارج السرايا، وبذات السلاسة التي جرت بها الأمور في جارتنا الجنوبية، فالشعوب التي لا تصنع التناوب على السلطة بنفسها، تموت داخلها الديمقراطية بشكل بطيء ومفجع.
أكاد أجزم بأن أول عبارة همس بها ديوماي فاي في أذن غزواني، وهو يعانقه عند سلم الطائرة، هي: "سينغال موي موريتاني، موريتاني موي سينغال" ويعني ذلك بالعربي الفصيح جدا، بأن "موريتانيا هي السينغال وأن السينغال هي موريتانيا"، صنوان لا يفترقان ولا ينفصلان، مهما اشتدت النوائب ومهما تلبدت السماء بالمواجع.
لكن ذلك يعني أيضا، في قراءة أخرى، أن ما يحدث في السينغال يتكرر دائما في موريتانيا، هكذا يقول التاريخ، وهكذا تقول الجغرافيا، وهكذا يقول ذلك الجسر الذي ينبت رويدا رويدا بين الضفتين، وهكذا تقول تلك العبارة التي تنقل منذ سنين وسنين، الحكايات بين الضفتين، صحيح أن تلك الحكايات كانت، ذات حين من الدهر، محزنة ومفجعة وتتفطر لها القلوب، لكنها في أغلب الأحيان، كانت دائما جميلة ومفرحة، تنشرح لها الصدور وتنفرج لها الأسارير وينام عليها الأطفال مطمئنين آمنين.