الزكاة: من الذي يتعمد مخالفة التعليمات الصادرة عن رئيس الجمهورية؟
لقد اتخذ رئيس الدولة – بإصداره مرسوما رئاسيا يقضي بإنشاء إدارة وطنية للزكاة – قرارا أشاد به الجميع، وشكل متنفّسا أثار الارتياح وأثلج صدور الفقراء والمُعْوزين.
ذلك أن هذه المبادرة فتحت آفاقا واعدة لإحداث تحسين حقيقي للظروف المعيشة لمن يعانون الإملاق والفاقة بعد عقود من الحرمان والهشاشة. وفضلا عن ذلك، ستسهم هذه المبادرة في تقليص الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء.
وتجدر الإشارة إلى أن تمويل هذه العملية لن يكون عِبْئًا على ميزانية الدولة لأنه سيجري عبر الموارد المتحصّلة من جباية الزكاة.
النغمة النشاز
مع الأسف، سرعان ما خَبَتْ جذوة الحماس والأمل الناشئيْن عن إعلان إنشاء الهيئة الجديدة (أي الإدارة الوطنية للزكاة) حيث لم تطبق تعليمات رئيس الجمهورية على النحو الذي كان يريده. وبالفعل، لم تكن المصالح المعنية بإقامة هذه الهيئة الجديدة على مستوى المسؤولية التاريخية والمهمة النبيلة المنوطة بها.
ومعلوم أن رئيس الدولة لا يمكن أن يباشر بنفسه كافة الأمور، وإنما يصدر التعليمات ويرسم الأهداف، وليس من شأنه الممارسة العملية للنشاط. بل يقع على عاتق جهاز الدولة عموما ومستشاريه على وجه الخصوص أن يُهيِّئوا له الملفات ويلفتوا انتباهه – عند الاقتضاء – إلى التداعيات والتبعات المترتبة على مسألة ما. وهذا ما لم يحدث – على ما يبدو – في حالة الزكاة. ولم يحصل على الإطلاق.
لقد بحثْتُ طويلا عن نعت يصدق على وصف الطريقة التي تمت بها إقامة الهيئة المذكورة ولم أجد سوى كلمة واحدة: غريبة. فالمفروض أن هذا العمل قد عكف عليه بجد موظفون سامون ورجال أعمال ذوو نفوذ، بدعم من وكالة أممية مكلفة بالتنمية. ويتعلق الأمر هنا ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
ويبدو أن البرنامج الأممي هو الذي تكفل بإعداد دراسة الجدوى والتمويل. ولهذا الغرض، أجرى البرنامج رسميا اتصالات بعدة بنوك محلية، دائما فيما يتعلق بالزكاة.
ما دخل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في هذه العملية؟
لئن كان برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يساعد الدولة عادة في تصور وإنجاز المشاريع، فإنه لا صلة له إطلاقا بموضوع الزكاة الذي يمثل فريضة دينية تم تقنينها منذ زهاء ألف وخمسمائة سنة. لا سيما وأن الهيئات الدولية تميل في الغالب إلى مقاربة المشاريع المنجزة في بلدان العالم الثالث من منظور غربي على خلفية مناوئة للإسلام.
وعند الحديث عن الهيئات الغربية، ينبغي أن نبرز هنا معطى أساسيا، ألا وهو: أن الموارد الضخمة الناتجة عن الزكاة ستجعلنا، على نحو دائم، بمنأى عن عجز الميزانية المزمن الذي كثيرا ما يُلجئنا إلى طلب تقويم هيكلي من قبل صندوق النقد الدولي.
يقدر العديد من الخبراء الاقتصاديين والماليين أن المبالغ المتأتّية من تحصيل الزكاة ستكون هائلة. فحتى لو لم تتجاوز نسبة التحصيل 60% أو 70% فإن الخبراء يتوقعون أن يفوق مبلغ الزكاة الميزانية السنوية للدولة.
وبوجود سيولة نقدية بهذا الحجم (بفضل مداخيل الزكاة)، ستكون موريتانيا في غنى عن مؤسسات التمويل الدولية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، إلخ). وعلى هذا الأساس، كيف ننتظر من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في ظل ميوله الأيديولوجية وأطماعه المالية، أن يدعم مشروعا يناهض المصالح الغربية؟
إذا تبيّن أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هو من أشرف على تصور هيئة الزكاة وساهم في إقامتها فلا يُستبعد أنه هو من أدخل هذا المفهوم الخبيث التي يتمثل في دفع الزكاة بصورة اختيارية – في مرحلة أولى – ريثما يتم إفشال العملية برمّتها.
الطابع الارتجالي للعملية
كان عمل اللجنة المكلفة بإقامة هيئة الزكاة، سواء بمشاركة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أو بدونها، عملا مخيّبا للآمال. بل لنقل: عملا مثيرا للأسى والأحزان. حتى ذهب البعض إلى أنه مجرد ترْقيع. ولا أدل على ذلك من الأمور التالية:
- بجعل أداء الزكاة اختياريا في مرحلة أولى، تخالف اللجنة فريضة دينية محكمة. ففي كل البلدان الإسلامية يعتبر دفع الزكاة أمرا واجبا محتوما، حيث تأتي الزكاة في المرتبة الثالثة من أركان الإسلام بعد الشهادة والصلاة. والامتناع عن دفع الزكاة عصيان لله ورسوله. ووجوب الزكاة مُجْمَعٌ عليه لوروده في محكم التنزيل: "خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكيهم بها ..." (الآية 103 من سورة التوبة). وهذا أمر إلاهي موجّه إلى الرسول الكريم. لذا يتحتم على المسلم، مهما ساءت نيات البعض أو حاول المراوغة، أن يؤدّي زكاته كفرض لازم.
وفي الإسلام، يتعيّن على بيده السلطة، ملكا كان أو رئيسا، أن يفرض – ولو بالقوة – احترام هذا الركن الإسلامي. وهي مسؤولية جسيمة سيتحملها أمام الله يوم القيامة.
بعد القرار الموفّق الذي اتخذه رئيس الدولة بإنشاء هيئة وطنية للزكاة، ستعرف هذه المبادرة مسارا متعثّرا أفضى إلى إقامة كيان منحرف وخال من المضمون وليس له من الزكاة إلا الاسم. كيان تتناقض صلاحياته وطريقة سيره في مجملها مع روح ومنطوق النصوص المؤسّسة للإسلام: أي القرآن والسنة. ونعنى بذلك الأداء الاختياري للزكاة.
مبادرة يُراد وأدها في المهد
لا يسعنا إلا أن نُقِرّ بالواقع بديهة: هذا الكيان الجديد ما كان له أن يرى النور، منذ انطلاقه، في ظل الاحترام الصارم لقواعد الدين القويم لأن بعض المسؤولين في الدوائر العليا لاتخاذ القرار، لأسباب تتعلق على الأرجح بالقناعات الأيديولوجية، يعارضون بشدة المبادرة ذاتها من حيث الأساس. ولا ننسى معارضتها كذلك من بعض رجال الأعمال ذوي النفوذ. ومع ذلك، لا مراء أن أداء الزكاة له مفعول على تكثير الثروة ...
سعيا إلى تمرير القرار، يصرح المسؤولون المعنيون بإقامة الهيئة أنهم يحاولون تدريجيا إرساء الآليات النهائية على مراحل، ويقولون إنهم بجعل الأداء اختياريا – وهو ما يخالف التعاليم الشرعية – يريدون تجنّب نفور الخاضعين للزكاة. لكن ما ذا يعني ذلك؟ إنه أفضل وسيلة للقضاء على العملية بحذافيرها. ذلك أن التهاون في تحصيل الزكاة يقتضى إهمال هذا الواجب ويشكل عاملا للتخاذل.
وعلى العكس من ذلك، ينبغي اعتماد إجراءات قسْرية. فبإمكان الدولة أن تفرض، من الآن فصاعدا، على كل من يريد الحصول على جواز سفر، أو بطاقة تعريف، أو توقيع وثيقة أو التصديق عليها، أن يقدم براءة من تأدية الزكاة إذا كان من المطالبين بها.
وعلى صعيد آخر، سيكون المجلس الأعلى للزكاة محكوما عليه بالتلاشي ما لم يحظ بمساندة صريحة من الدولة.
وبعيدا عن أي تملّق، أظل في قرارة نفسي موقنا بأن تعليمات رئيس الجمهورية لم تطبق بالشكل الذي كان يريده. وبالتالي فإن سمعة رئيس الدولة ورفاهية الشعب قد تمت التضحية بهما خدمة لمصالح ثلة من أصحاب الحظوة.
رعونة لا تغتفر
من الأخطاء التي ارتكبها القيّمون على هذه التركيبة الغريبة أنهم لم يدركون أن نتائج عملهم تلزم رئيس الدولة. وعندئذ، كيف نجد مسوّغا لنتصور، ولو لحظة، أن رئيسا مسلما، وأكثر من ذلك سليل إحدى أكبر المشيخات الصوفية، يمكن أن يقبل أن يكون أداء الزكاة اختياريا؟
ومن المثير للسخرية تأجير فيلا لتكون مقرا لإدارة الزكاة. فالواضح أننا لم نفهم بعدُ الأهمية الجوهرية لهذا الكيان الجديد بالنسبة للبلاد، إذ ينبغي النظر إليه على أنه لا يقل عن وزارة كبرى.
في الهيكلة المتضمنة في الدراسة التي رفعتُها إلى رئيس الجمهورية عن طريق وزير الداخلية الحالي، أبرزت أن هناك حاجة إلى توظيف مئات الأطر والوكلاء في هيئة الزكاة. ولن يكفي لإيواء هذه الهيئة إلا عمارة من خمسة أو ستة طوابق.
وفي الدراسة نفسها، اقترحت على رئيس الدولة أن تكون إدارة الزكاة مؤسسة دستورية، على أن يُمنح لهذه الهيئة طابع النفع العام بموجب تعديل دستوري يقرّه البرلمان.
وآلت الأمور في النهاية إلى أن تخضع الهيئة لوصاية وزارة الشؤون الإسلامية، وهو ما لا أراه حلا أمثل، لا على الصعيد العملي، ولا السياسي، ولا النفسي.
إنقاذ غالبية السكان من المجاعة والهشاشة
لو أن الإدارة الوطنية للزكاة تم إنشاؤها مع إشراك الرئيس شخصيا في جميع مراحل العملية لكان نجاحها مضمونا ولمكّنت من حل أغلب المشاكل المرتبطة بالفقر والهشاشة في موريتانيا.
وسيتحقق ذلك متى أسند التسيير اليومي لهذه الإدارة إلى طواقم منتقاة بعناية وتتوفر على تجربة في معالجة الملفات الحساسة ولديها معرفة دقيقة بدواليب الدولة.
وفور إطلاق الآلية، ستنهال التدفقات المالية بغزارة من جراء تحصيل الزكاة. وستبلغ مليارات الأوقية. وهي نعمة ستدفع قُدُما بعجلة التنمية في البلاد.
يرى الخبراء أن مداخيل الزكاة ستفوق كل موارد الدولة الناتجة من الغاز، والحديد، والذهب، والصيد، إلخ ...
ولو أن هذه المبادرة تجسّدت ميدانيا وأثمرت نتائج ملموسة لكانت على الأرجح أهم قرار اتخذه رئيس منذ الثامن والعشرين نوفمبر 1960.