معاينة تضر بدولة القانون
ها نحن نواجه مرة أخرى الإفلات المستمر من العقاب الذي يتعجب منه ويحافظ عليه رجال توائم زائفون ذوو نضج مبكر جدا، كثيرون ومصابون بنهم لا يشبع، ويتشبثون بدون شك بمصالحهم الأنانية والخسيسة.
لا يمكن إنكار أن السلطة القضائية لم تمتثل ــ هيهات ــ الفكرة الأساسية لزعيمنا، رئيس جمهوريتنا الهشة. تلك الفكرة السائدة التي كان ينبغي أن تتجسد في النضال الحاسم بلا هوادة وغير التمييزي ضد الإفلات من العقاب، وفي نفس الوقت إضفاء الطابع المؤسسي على آلية جديدة ذكية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية والثقافية والمالية، وهما رؤيتان أساسيتان بدونهما ـ لأن إحداهما ترافق الأخرى بشكل وثيق ـ لن تصبح البلاد أبدًا جزءا لا يتجزأ من مفهوم التنمية المتعدد القوميات والسيادي.
تتمثل الرؤية الأولى في مكافحة هذه الغرغرينا الخبيثة والعميقة والشريرة التي يجسدها الإفلات من العقاب. ونحن على يقين من أن الرئيس يعلم الأمر جيدا: أن عدم محاربة ذلك في جوهره الأنثروبولوجي من خلال العدالة، الواحدة وغير الجزئية، في جو من المساواة والعقل والمنطق والشرعية، والتي يتم اتباعها ومتابعتها دون أية مجاملة لصالح البناء الحتمي لدولة القانون الحقيقية، فلا شيء على الإطلاق، سيؤدي إلى تلبية لا تتجزأ وعادلة تماما لمطالب شعب كامل مكلوم، ويشاهد، دون أي إحساس، اختفائه التام، ما لم يقدر الله قراراته المفاجئة والراديكالية ـ التي لا معقب لها دائمًا - ويُجبِر بقوته القاهرة أولئك الذين يحكموننا بشكل سيئ للغاية على انتهاج الحكم الرشيد، المنحاز، على أي حال، ولو لم يكن إلا جزئيًا وتدرجيًا.
مسارات التغيير مسدودة
بالمبدأ العام المتمثل في مكافحة الإفلات من العقاب بشكل لا رجعة فيه، لا أعني فقط العقوبة القضائية المناسبة والمعيارية لجميع أولئك الذين سهلوا وفرضوا، مع الاستمرار في الهيمنة المفرطة بشكل مباشر أو غير مباشر على النظام الفاسد بالفعل - ونحن نعرفهم، والشعب كله أيضاً، يعرفهم بأسمائهم - بسبب مشاركتهم النشطة في التهام الأموال العامة المختلسة والسرقة والفساد بأعلى درجات الكمال والأكاذيب والابتزاز واحترام نظام التسلسل الهرمي الخدّاع، محكمين بذلك إغلاق جميع سبل التغيير. ولكن أيضًا، من خلال رفضهم القاطع والقوي والمنهجي للحل الحازم للمشاكل العالقة، في جو من انعدام المسؤولية والانحراف: تلك المتعلقة بالظلم الاجتماعي والثقافي، وغياب توزيع ثروة الأمة، وتقلبات القبلية والجهوية. ولا حتى، على أقل تقدير، مفهوم الدولة الأساسي الذي يوصي بتطبيق أحكام ديننا الحنيف الإلزامية شرعاً ـ والتي هي مقدمة على كل شيء ـ في انتظار الصحوة المسؤولة والمفاجئة للغاية لمن صوتنا لصالحه والذي عهدنا إليه بالسلطة، فهو القادر بنزاهة وفكر على الحكم في الاتجاه الصحيح...
إذا أراد ذلك. إن تجربته في هذا المجال لا جدال فيها، إذ عاش وأدار «بالصداقة» النظام الذي سبقه.
إن التحليل التبسيطي للغاية لهذه الحتمية التي تميزنا ـ هذا البطء وهذه المماطلات وهذه القرارات القطعية المتعددة التي لا تكاد تشجع على التفاؤل، بسبب سيطرة مجموعة من البلطجية على البلاد تتجدد مع كل جيل وتأتي، في غالبيتها، من هامش ظلامي واحد من مجتمعنا - يبدو لي أن المفاهيم الأخلاقية لتسيير الشعوب، وموقعنا الجيوـ استراتيجي، والوضع الاجتماعي الإقليمي، وقبل كل شيء الأمن في مواجهة الأخطار التي تنتظرنا هنا وهناك وفي كل مكان في ظل الأنظمة العسكرية ـ المدنية، كلها أسباب تقودنا إلى الاختيار المسؤول والمؤقت - للشخص الذي يجب أن يقودنا في إطار فترة الخمس سنوات القادمة. إن هذا مبرر بما يكفي إذا أخذنا في الاعتبار حقائق لون السلطة السياسية، السائدة منذ عقود، ومعرفتنا بالتجاوزات الجوهرية والخطيرة، مهما كان مصدرها، على مستقبل بلادنا.
إعادة هيكلة الطبقة السياسية
بالنسبة لنا نحن الذين صوتنا للسيد ولد الغزواني، ونحن اليوم في حيرة، متلعثمين، متعثرين، مضطربين، متشككين، قلقين على مصيرنا غدا، وخاصة مصير أبنائنا، لا نعرف إلى أين نتجه، فإن منحه مأمورية جديدة، رغم كل شيء، يدخل ضمن الحكمة حسب رأيي المتواضع. وحتى لو كنا لا ندرك أنه في وعيه وضميره مشبع بحكمة بالواقع الخطير للغاية الذي تعيشه بلادنا، فإن ميزة الشك تظل ضمانتنا. هل يستطيع رئيسنا "المرابط" الذكي ألا يكون على علم بالوضع الذي تعيشه بلادنا؟ فهل يمكن أن يخفى عليه وضعها الجيو سياسي، بين ما يجري على حدودها في الشمال والشرق وبشكل خطير في الجنوب مع شقيقنا السنغال ونحن ننتظر عائدات حصتنا من الغاز؟ إن الوضع في السنغال، الذي نتقاسم معه تداخل المصالح ذات الطابع التاريخي والعرقي والثقافي والجغرافي والديني، وقبل كل شيء، الأخوة الحتمية، رغما عنا، يتحدانا كما لو كان الأمر يتعلق ببلادنا. سأجيب بالنفي على كل هذه الأسئلة: لا شيء يخفى على رئيسنا، الذي ننتظر منه تركيزا حازما جدا، اليوم وغداً، على نقل بلادنا بسرعة من مأمورية نزاعات نسبيا إلى مأمورية أكثر حزما وديمقراطية.
كل هذه أسئلة ستدعي ذكاءنا وذاكرتنا وتذكرنا بتاريخنا الصغير الحديث وتقلباته، مما يطرح إشكالية تجبرنا على إثارة تفكير جديد في صفوف طبقة سياسية أعيدت هيكلتها، سواء في صف المعارضة أو في معسكر النظام، حيث سيعمل جميع المواطنين النزيهين والمستقيمين والنظيفين والأذكياء والشجعان، بغض النظر عن عرقهم أو أصلهم، على إنقاذ بلدنا مما نعرفه ونعيشه وراثيًا في الخوف والمعاناة والمصائب. وبعبارة أخرى، فإن تعليما واعيا، يتجاوز الازدراء أو الانتقام أو القصاص، ويعيد النظر في الحقائق المتضاربة التي تُرَى بالعين المجردة، لمصلحة شعبنا في هذا الوضع الإقليمي والدولي المضطرب.
وفي الواقع، تعتمد نصيحتي على حقيقة أننا نعلم مدى صعوبة حل جميع المشاكل في نفس الوقت، بسبب عدم وجود عصى سحرية، خلال هذه المأمورية الناتجة عن عشرية خاصة جدا:
إن سوء التسيير بجميع أنواعه، وفيروس كورونا وعواقبه، والحرب في أوكرانيا وآثارها الفظيعة التي من المحتمل أن تكون مدمرة بالنسبة للإنسانية؛ وحرب غزة اليوم حيث يموت إخوتنا في الدين والدم تحت نيران قصف طائرات الصهيونية العالمية التي تسعى لاستئصال الكيان التاريخي لفلسطيني، كلها تنبئ بأزمة اقتصادية عالمية ساحقة. لقد أخذنا كل هذا في الاعتبار، وبالتالي، لم نطالب بالمستحيل، وبمعجزة، عشية هذه الانتخابات الجديدة، التي تبدو نتيجتها متماشية مبدئيا مع الاستمرارية. وعلاوة على ذلك، نأمل أن يكشف هذا الاستهلال المرير عن تَركٍ نهائي لهذا الانحراف الذي يخنقنا في عدم احترام المبادئ الأساسية للديمقراطية وما توصي به.
سنطالب به وننتظره، بفضل نعمة إلهية استثنائية، مقترنة بقوة بإرادة وطنية موحدة، بالتنسيق مع نمط جديد من السلطة المقتنعة تماماً بالجدوى الملحة لمتابعة مختلفة لمشاكل الأمة التي لا تزال دون حل...
عائق أمام التهدئة العامة
ومع ذلك، هناك أكثر من سبب للعودة، على ضوء الانتخابات الرئاسية المقبلة، في هدوء وسلام اجتماعي، إلى الحل الواقعي لبعض المشاكل العالقة. سجن الرئيس السابق مع الاحتفاظ بوزرائه؛ الحفاظ على رفاقه السياسيين مهيمنين داخل الحزب الرئاسي؛ تجديد الثقة في إدارة المحتالين ذوي الخبرة والمدربين وإبقاء الثقة في رجال أعماله الذين صنعهم هو نفسه؛ هذه بدع مشبوهة ومحرمة لا توفر سوى حافز ضئيل لتقدم الديمقراطية. وباختصار، فإنها بقع لا تمحى، وتتنافى مع روح العدل والمنطق.
إن الذهاب إلى صناديق الاقتراع في حين لم يتم حل قضية الزنوج الأفارقة الموروثة عن سلطة الرئيس السابق معاوية بكل أبعادها، يشكل مصدراً آخر للاستياء المدمر والمتعب، وعائقاً أمام التهدئة العامة. ومع ذلك، فإن إعادة الهيكلة العميقة لقطاع التعليم من خلال مراعاة الوجه الحقيقي لثروتنا المتعددة الثقافات تشكل أولوية. إن إرساء الأسس يسير الآن في اتجاه التفاهم الوطني الذي يولد ثروة ثقافية لا تقدر بثمن، ويحطم الشوفينية المعاودة والمُغتَرّة.
إن تحجيم وتدمير المعارضة الكامنة عبر التآمر وغياب الموارد المالية والبشرية، وذلك عن طريق شراء الذمم تجاه الانتهازية؛ وإن عدم تطهير ميدان المافيا السياسي الذي بناه رجال ونساء القوى المتعاقبة بوسائل الدولة يشكل عقبة دائمة أمام تطور أي شكل من أشكال الديمقراطية: لا يمكن بناء دولة القانون من دون معارضة قوية ومفيدة. ولذلك، فإن التعاون الحقيقي مع كافة الأحزاب السياسية المعارضة يجب أن يحظى بدعم ثابت من قبل السلطة، وأن يتم تسجيله وتثبيته، بشكل نهائي، في أذهان المواطنين في إطار المأمورية الثانية، لأن الهيمنة المنهجية لسلطة تعتمد حصريًا على الهياكل البشرية والمادية للدولة لن تذهب أبدًا إلى أبعد من أولئك الذين يشبهونها والذين تعاني شعوبهم من الظلم، في ظل الانقلابات ونتائجها الطبيعية، مثل الثيوقراطية السخيفة.
إن الرغبة في المضي قدمًا في التسيير السليم لجمهوريتنا دون المرور بالاستئصال المطلق لآثار العبودية بجميع جوانبها تشكل خطوة إلى الوراء مميتة بشكل قاس. إن إرث عدم حل مشكلة الأراضي في الجنوب، والذي نشأ من التوزيع غير العادل الذي لا يمكن الدفاع عنه تاريخياً، لصالح تجار العبيد الفاسدين المدعومين من قبل قوات أمننا، وأحداث الركيز تظل بطبيعة الحال مقدمات منذرة بمأمورية غريبة بالتأكيد، ولو جرت في طمأنينة واستقرار بواسطة القوة.
إن إعلان انطلاق حملة بحجم الانتخابات الرئاسية دون ضمان مسبق للشفافية التامة الواضح وإجراء العملية الانتخابية تحت إشراف ممتاز وذي مصداقية عالية، مما يمكن جميع الناخبين البالغين من ممارسة حق التصويت، ليس هو القفل المناسب في مثل هذه الظروف الهائلة والمضطربة.
وبالإضافة إلى ذلك، ودون الذهاب بعيدا، أود أن أطرح على نفسي وعلينا بعض الأسئلة التي لا أتوقع أن أتلقى عليها أدنى إجابة من أي شخص. وحسب رأيي، فإنهما يلخصان في شكلهما كل ما لم يُقَلْ هنا ويحتويان في داخلهما على إجاباتهما الخاصة.
وفي نهاية المطاف، من نحن، بالكاد يبلغ عدد سكاننا أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، وكلهم مسلمون، وما زلنا نعيش في فقر، على الرغم من ثروة أراضينا التي تتجاوز مساحتها مليون كيلومتر مربع؟ إلى أي جزء من هذا الكون ننتمي؟ ماذا نطمح إليه وبماذا نحلم؟ ما هو نوع الشعب الذي نود أن ننتمي إليه أو نشبهه؟ أي نوع من العدالة أو الظلم نريد أن نخضع له؟ وفي الحقيقة، هل نحن مسلمون حقيقيون نتبع ديننا الحنيف ومبادئه الأساسية؟ إلى متى سنصدق أو نتخيل أننا مجرد مراقبين بسيطين للظلم ونتائجه، محميين من المشاكل أو الصراعات الداخلية أو الخارجية، المزعجة والمُقَيِّدَة، في حين أن العالم - حتى عالم الغرب - يعيش ذلك بالفعل، في ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية؟ هل سنكون متميزين إلى الأبد بطبيعتنا، معفيِّين إلهيًا من هذه الشرور، بينما في أعماقنا، نحن، في كل شيء تقريبًا ومن جميع وجهات النظر، دعاة بامتياز للزور واستخدام السندات المزورة والنفاق؟
في الواقع، مع العلم أن مجتمعنا هو التجسيد ذاته للعيوب المذكورة بشكل غير مباشر، يمكننا الرد الشافي والكافي على السؤال المطروح هنا. لكن الله تعالى قادر على أن يجعلنا نسلك غدا إن شاء الله الطرق المؤدية إلى عكس ما نحن عليه وما نفعله بشعبنا العزيز. دعونا نتوكل عليه حتى يتم تنفيذ المأمورية القادمة لرئيسنا الحالي أخيرًا ببصيرة وشرعية آسرتين من قبل رجل جاهز تمامًا لإعادة تأسيس وبناء بلد مهدد. إن العمل والأخلاق وحدهما يشكلان الأدوات الحقيقية للتنمية التي من المفترض أن تقضي على الفقر والمجاعة: ولا يوجد إطار آخر غير إطار الأخلاق والعدل لتحقيق تلك الأهداف.
أخيرًا، سأقول لرئيسنا إنه سيكون من الأفضل أن ينتبه في المقام الأول إلى النصائح التي تأتي إليه من أولئك الذين لا يعرفهم أو يجهلهم بدلاً من أولئك المقربين منه الذين يحيطون به بشكل شيطاني من "الأصدقاء" والداعمين التلقائيين لكافة الأنظمة.