إضاءات سريعة حولَ موضوع التعاون مع الاتحاد الأوروبي بشأن الهجرة
توطئة:
انتشرت مؤخرا، وعلى نطاق واسع، معلومات عريضة حول اتفاقية تعاون بين الاتحاد الأوروبي والحكومة الموريتانية بشأن الهجرة، تُفيد بتضمن هذه الاتفاقية التزام الدولة باحتواءِ وتوطين المهاجرين مُقابل تمويل أوروبي لتغطية ومكافأة هذه الالتزامات.
وقد أثار ذلك نقاشا واسعاً افتتحه الإعلام بكثافة النّشر، وتبنّته السياسة بحشد الاعتراض، وفي خٍضَمِ ذلك التعاطي غاب الرأي القانوني المؤصّل.
ودون تعمّق أو إطناب، ومن منطلقِ المساهمة في مصداقية المعلومة وتدقيق المضمون سبيلا إلى إرساءِ مسؤولية الطّرح وموضوعية الانطباع في مسار تشكُّل الرأي العام حول هذا الموضوع البالغ الأهمية، بدت لي الحاجة إلى الإضاءات التالية ضرورية ومُلّحة:
1
أولا، وقبل كل شيء، في المنظورِ القانوني الضابط للتعاقدات الدولية، لا يُتصوّر منطقاً وجود التزامات دولية إلا في ضوءِ معاهدة مُبرمة وفق مسار قانوني ذي قوة ملزمة ضامنة لإنتاج آثاره على الأطراف المتعاقدة، والمعاهدات وفق الاصطلاح القانوني، واستئناساً بتعريفات اتفاقية فيينا (1961) وتأسيسا على مقتضيات الدستور الموريتاني، كل اتفاق أو تعاقد أو تعاهد بيني على سبيل الإلزام تُحدّده قاعدة العقد شريعة المتعاقدين (Pacta sunt servanda)، وتحكمه قواعد القانون الدولي، يُمضيه ويصادق عليه رئيس الجمهورية وفق إجراءات الإمضاء والمصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية تأسيساً على المادة 36 من الدستور، ويُقرّه البرلمان وفق مسطرة الإقرار بناءً على مقتضيات المادتين 78 و57 من الدستور ليكون قانوناً نافذا حائزا على قوته الملزمة.
والواضح من كل مجريات الواقع، أنّ هذه الإجراءات الراسمة لمسار الاتفاق لم تحدث بعد، ذلك أنّه لم يُصادق رئيس الجمهورية على مخرجات مفاوضات ممهّدة لاتفاقية، ولم يقرّ البرلمان أي اتفاقية، ما يعني أن الحديث عن التزام الدولة لا يستقيم قانوناً، لأنّه بكل بساطة لم تكتمل بعد مقوّمات قيّامه.
2
2- في حقيقة الواقع، ما وصله موضوع التعاون بين الاتحاد الأوروبي والحكومة الموريتانية، يُسمّى في التقويم القانوني بمرحلة ما قبل التعاقد (Période pré-contractuelle)، وفي مسار عملية الاتفاق يُسمّى المفاوضات (Négociation) أو محادثات ما قبل التعاقد (Pourparlers pré-contractuels)، وهي مجرّد مرحلة نقاش وتباحث يتلمس فيها كل طرفٍ طريقه إلى التعاقد مُرتباً كل أبعاده ومرتكزاته واضعاً مصالحه في المقدمة، حيث يتم فيها عبر المراسلات أو التباحث المباشر، تبادل الاقتراحات، والمكاتبات، والتقارير، والمساومات، والدراسات الفنية سبيلا إلى تقارب وجهات النّظر حول موضوع التعاقد وتلاؤم المصالح المُشتركة حوله.
وبصرفِ النّظر عمّا قد تتضمّنه هذه الوثائق، أو تشهده المباحثات من مقتضيات التعارض بين المصالح، واختلال التوازن، تبقى في نهاية المُطاف مجرّد عروض ومساومات تخضع لما تمنحه حرية التفاوض من حق الاعتراض، والمراجعة، والتحفّظ، والرّفض.
3
المستخلص من مسار التفاوض الجاري الآن، يُبرهن على أن الدولة الموريتانية "دولة متفاوضة" (État ayant participé á la négociation) بمفهوم اتفاقية فيينا، وهو مصطلح يُطلق على الدولة المساهمة في صياغة نص الاتفاقية تمييزا لها عن التي تنضم لاحقاً بعد دخولها حيّز النّفاذ. ويتميز هذا المركز القانوني بكونه يُخوّل للدولة المتعاقدة، المشاركة بحرية في صناعة القرار الاتفاقي بما يضمن مراعاة مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية في الطبيعة القانونية والصياغة النهائية للتعاقد.
ينضاف إلى هذا المُطمئِن، ما طرأ مُؤخرا على القيمة المُضافة للدولة الموريتانية في الحيّز الإفريقي، بفعل ترأسها الاتحاد الإفريقي، ذلك أنّه في موازين التفاوض الدّولي يختلف مركز الدولة الفاعلة في القرار القارّي عن الدولة المنفعلة به.
ودون تحيُّزِ، أو مغالاة، أو مُصادرة لحرية الآخر في الرأي والقناعة، يُراهَنُ في نظري، على الحس الاستراتيجي الأمني لدى صانع القرار الموريتاني بحكم الخلفية الاختصاصية، والمسار الوظيفي، والتجربة المهنية.
وفي الختامِ، ودائما من منظور القانون، التفاوض عمل حكومي صِرفٌ (انظر م.43 من الدستور)، والإقرار اختصاص برلماني أصلي (انظر م. 57 من الدستور). والعمل الحكومي من حيث هو تدبير عمومي مُفترض فيه الرّشد ومراعاة مصالح الوطن بفعل انبثاقه عن نظام حاصد ثقة التدبير باسم الجمهورية، والثقة لاحقاً من قبل برلمان حائز هو الآخر ثقة الإقرار باسم الجمهورية، تغطيته ونقاشه وإثراؤه بالآراء والأفكار - خصوصا في القضايا المصيرية - حقُ مكفول، بل واجب وطني، وتخوينه وشيطنته مزايدة هيّنة الرّصد، ودعاية جليّة التحامل.