القسام.. جند الله ووعد الله

فاضل المختار

هذا ليس مقالا عاديا مما أكتبُ أو يكتُبُ الناس؛ هذه قطعة من نفسي! كتبتها بالإيمان والألم والدموع.. إلى جند الله ووعد الله..  إلى كتائب القسام!.

 

"لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس". 

 

قرأ إمامنا الليلة الماضية قول الله عز وجل في سورة التوبة: "إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"(40)"، ظلت الآية تتردد في ذهني، وتمتلئ بها نفسي، وتسيطر على أحاسيسي حتى بعد انقضاء الصلاة لم ينقطع صداها؛ بل أخذ يكبر ويكبر.

تذكرت حال إخواننا المجاهدين في غزة وهم في أنفاقهم والعدو يتربص بهم والأقربون بين عاجز لا يستطيع حيلةً ولا يهتدي إلى سبيل، أو متخاذل قادر، قد استكان ورضي بالقعود أول مرة، أو خائن خسيس، ظاهر الأعداء وواطأهم.

 

تخيلت اثنين من المرابطين أو ثلاثة في عقدة قتالية تحت الأرض، أو في خراب بناية مهدمة، وقد انقطع الاتصال بينهم وبين القيادة لأسابيع، وانقطعت عنهم خطوط الإمداد، لا أخبار لا تعليمات لا توجيهات.. ونفدت المؤن غير حفنات من تمر أو حسوات من ماء، وبلغ بهم الإعياء والجهد كل مبلغ، والعدو بعسسه وكلابه ومسيراته وراداراته يبحث عنهم، ويرقب منهم كل همسة وكل نأمة وكل حركة. فإذا بأحدهم يحدث صاحبه في هدأة من الليل، يبثه شجونه وخلجات نفسه، فيقول: 

 

"ما بال أمتنا؟! أليسوا مليارين أو تزيد!؟ ما بال الجيوش بالملايين؟! والعتاد والتسليح والإمكانات الهائلة؟! أين قاهرة المعز، وبغداد الرشيد؟ أين بلاد الحرمين؟ أين باكستان وأندنوسيا وتركيا ونيجيريا والمغرب والجزائر؟!. 
أين هي أموال النفط وعائدات الغاز والحديد والذهب؟!.
أين نخوة المعتصم وبطولات صلاح الدين ونجدة يوسف ابن تاشفين؟ّ!". 

ثم يسائل أمته فيقول:
"كيف أغضيت على الذل ولم      تنفضي عنك غبار التهم ؟
أو ما كنت إذا البغي اعتدى      موجة من لهب أو من دم !؟
كيف لا ينتصرون لنا؟!
إذا كانوا قد عجزوا أو جبنوا عن القتال كالرجال؛ أما وسعهم دعمنا بالمال والسلاح؟! كما تفعل أمريكا والغرب مع الصهاينة..؟! تبا لهم وتعسا، ثم تعسا! حتى الغذاء والماء والدواء والوقود عجزوا عن توفيرها لنا، وللنساء والأطفال خلفنا. وهذه أصلا من مهمات النساء في الحروب! لقد تركوا ظهورنا مكشوفة للعدو! يا لخيبتي فيهم". فتخنقه العبرة، وتحرقه المرارة!. 

 

فيجيبه صاحبه، وكان قد استظهر القرآن حفظا، ووعاه فهما وتمثلا، لكأن وجهه يتلألأ نورا في ظلام الليل الدامس.فيقول: 
"لا عليك منهم أخي ياسر؛ ألسنا قد عرفنا طريقنا؟ ووثقنا بموعود ربنا، إما أن نحيا بعزة وكرامة، أو أن نموت شهداء، ثم يربت على كتفه؛ لا تحزن.. فالله معنا، ثم يقرأ من سورة التوبة مرتلا بصوت عذب جميل خاشع واثق، كأن الكون كله يتجاوب معه في تلك اللحظة، إلى أن يصل إلى قول الله عز وجل: "إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" ثم يكررها ويكررها؛ فتذرف عيناه، وهو يبتسم وينتشي فيقول: يا ياسر ألم يقل حبيبنا صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟"، فيسلمان لله، ويقطعان الرجاء من غيره، فتتنزل السكينة من الله؛ وحسبك بها كافيا ومثبتا "فأنزل سكينته عليه".

ثم يقول رائد مخاطبا ياسر: "لقد حان وقت النوم؛ سأبدأ الحراسة الليلة، فإذا جاءت مناوبتك أيقظتك، فيخلد ياسر لنوم عميق هادئ ويشعر براحة وطمأنينة عجيبة؛ كأنما تنزلت الآيات عليهما اللحظة بردا وسلاما!.

يأخذ رائد يصلي ويقرأ القرآن ويذكر الله ويسأل الله صادقا باكيا أن يرزقه الشهادة. وهكذا يتناوبان الصلاة والحراسة حتى يطلع الفجر!. 

-ياسر: سأخرج إلى هذه الناحية للرصد عل الله أن يمكننا من رقاب بعض هؤلاء الأنجاس.

-رائد: طيب، ولكن تلطف حتى لا يشعروا بنا.
وماهي إلا دقائق حتى يلمح رتلا للعدو قادما من بعيد، فيعود مسرعا فرحا إلى صاحبه كأنما ظفر بكنز أو لقي محبوبه بعد طول فراق! "تجهز تجهز لقد أمكننا الله من رقابهم". 

فيخرج رائد ليتأكد فيقول: "صحيح هذا صيد ثمين! ولكن فيه مخاطرة كبيرة؛ فمسارهم غير مسارنا، والأرض بيننا وبينهم شبه مكشوفة، ولو خرجنا لاكتشفونا وقضوا علينا"، فيقول ياسر: "لا لا.. لابد من حيلة!". 

فيقول رائد: "دعنا لا نتسرع؛ لندرس الوضع جيدا، ونعد خطة محكمة، ثم نتوكل على الله ونسأله العون والتوفيق؛ تعرف أن هذه هي تعليمات القيادة الصارمة!".

 

الخطة: "الرتل يحتاج أربع ساعات تقريبا ليصل المنطقة، مساره يبعد 3 كلم، والمنطقة بيننا شبه مكشوفة، ولذلك اختار الجبناء هذا المسار بعناية، ولكن انظر ( يعطيه المنظار) من حسن توفيقنا، توجد هناك نتوءات صخرية ليست بعيدة منهم، نحن عندنا قاذف الياسين 105 مداه الفعال من 100 إلى 150 مترا. سنزحف إليها يجب أن نستخدم سترات التمويه الخاصة بالرمال، ستتجه أنت إلى التلة في اليمين ومعك القذيفة، وأنا إلى اليسار ومعي الرشاش، يجب أن تكون دقيقا فعندنا قذيفة واحدة فقط والذخيرة أيضا ليست كافية.
سأزحف أنا في المقدمة وسنتحرك بالتتالي؛ إذا توقفت أنا فتقدم أنت والعكس، يجب أن تنتبه جيدا لمستشعر المسيرات، رحم الله المهندس القسامي الذي اخترع هذا الجهاز البسيط والفعال في نفس الوقت، فكم أفادنا في حربنا هذه. العجيب أننا لا نعرف اسمه ولا من يكون؛ سمعت أنه شاب في الثلاثين، ومن تلاميذ المهندس الشهيد محمد الزواري. وما ضره ألا يعرفه الناس؛ إذا كان الله يعرفه؟!". 

ثم يشرعان في التحرك، فينادي ياسر رائدا: "لقد نسيت أن تأخذ بعض التمر والماء ولم تفطر بعد، والمهمة تستغرق ساعات، وربما سائر اليوم"، فيجيبه رائد: "لا عليك واصل طريقك أحس أن إفطاري اليوم سيكون مختلفا؛ فقد اشتقت للأحبة محمدا وصحبه!". 

 

بعد حوالي ساعة من الزحف الشاق المضني يصلان إلى الموقع، وبعدها بساعتين يقترب الرتل (حاملة جند (20 جنديا) تتقدمها وتعقبها قوة مشاة من 30 جنديا)، فيأخذ ياسر وضعية الاستعداد (بسم الله والله أكبر، "ومار ميت إذ رميت ولكن الله رمى" اللهم سدد، بسم الله، بسم الله) ثم يطلق قذيفة الياسين 105 فتحقق إصابة مباشر لحاملة الجند. فيصرخ: "الله أكبر، الله أكبر..". تشتعل النيران وتتطاير أشلاء الجنود، وتتفرق بقيتهم، فيدخل معهم رائد في مواجهة مباشرة بالرشاش فيردي منهم عددا كبيرا بين قتيل وجريح، وما يلبث أن تصيبه قذيفة إصابة مباشرة فيصرخ: "فزت ورب الكعبة"، ثم يتقدم الجنود بحذر للإجهاز على المقاومين، ولكن في آخر لحظة تتدخل كتيبة قسامية أخرى لم تكن بعيدة من الموقع؛ فتجهز على بقية الجنود ويسعفون ياسر فقد أصيب بشظايا قذيفة، ولكن لا حيلة لإنقاذ رائد فإصابته قاتلة، وهو في لحظاته الأخيرة. 

ثم يقترب منه ياسر: "أصبر أخي سنحملك إلى كتيبة الإسعاف الطبية، فهم من خيرة نخبة القسام"، فيجيبه: "لا عليكم مني، اذهبوا بسرعة قبل يأتي المدد، أما أنا فإني أجد والله ريح الجنة!". 

 

-أخي ياسر: أرجو أن تبلغ ابني محمد وصيتي: "أخبره أن والده قد مات كما يموت الرجال، وأن هذا هو طريقنا وهذا قدرنا فلا يقِلْ ولا يستقِل، وأبلغ تحياتي لزوجتي أم محمد وبناتي ريم وجهاد وبدور، فقد استودعتهم ربا رحيما كريما، وأخبرهم بأن موعدنا الجنة إن شاء الله. آه لا تنس أن تشتري علبة شوكالاته لصغيرتي بدور (3سنوات) فقد وعدتها قبل ذهابي ـ وهي تتعلق بأثوابي ـ أن أشتري لها شوكالاته!". 

ثم يقول مخاطبا ياسر ومن حضر من شباب القسام: "أبلغوا إخواننا المجاهدين والأخيار من أمتنا: أنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، ثم ينظر إلى جرحه يثعب دما يتدفق كالشلال، فيبتسم وينظر للأعلى: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". ويسلم روحه الطاهرة لباريها. 

 

ثم تأتي أوامر القيادة بالانسحاب بسرعة، فقد رصدوا تحركات لفرق من نجدة العدو، فتنسحب المجموعة ولم يتمكنوا من دفن رائد، ولا حتى من الصلاة عليه! فينظر إليه ياسر وهو يبكي: "لا شك أن ذلك الجسد الطاهر سيكون نهبا للطير، وطعاما للهوام السباع! ولكن روحك الزكية ستحلق في حواصل طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل ثمارها، وتأوي إلى ظل عرش الرحمن!.  
تقبلك الله في الشهداء، فقد أزحت عن صدري هما عظيما بحديثك البارحة واستشهادك الغداة". ثم يردد: "والله لا نقيل ولا نستقيل، وإنه لجهاد نصر أو استشهاد".

 

ثم يتلو قول الله عز وجل: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما. من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليهم فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.

 

8 February 2024