مبادرات صينية عالمية متزايدة استشرافا لعالم يتغير بسرعة (1 - 2)

أحمد محمد المصطفى - ahmedou0086@gmail.com

في خطابه خلال افتتاح المنتدى الثالث "للحزام والطريق" ضحى الأربعاء 18 أكتوبر المنصرم، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ إن العالم يعرف في الوقت الراهن تغيرا غير مسبوق.

 

وحدد الرئيس شي تعامل الصين مع هذا التغيير الذي يطال "العالم والعصر والتاريخ"، في "دفع القضية العظيمة المتمثلة في بناء دولة قوية، وتحقيق نهضة الأمة على نحو شامل من خلال تحديث النمط الصيني"، مؤكدا أن ما يسعون إليه في هذه الظرفية "ليس تحديثا يخدم الصين وحدها، بل تحديث نحققه سويا مع دول العالم بما فيها الدول النامية".

 

الرئيس الصيني أكد خلال خطابه الذي حضره رؤساء ورؤساء حكومات ووفود من 140 دولة، و30 منظمة دولية - في تجمع هو الأكبر بعد الأمم المتحدة - أن هذا التحديث العالمي الذي تسعى الصين لتحقيقه يتميز بأن هدفه التنمية السلمية، والتعاون المتبادل، والمنفعة والازدهار المشتركين، داعيا الحضور، وأعضاء مبادرة الحزام والطريق، والعالم كله، للتركيز على تحقيق هذه الأهداف واتخاذ الخطوات العملية، وبذل الجهود الدؤوبة بدون تراخ لتنفيذ الخطوط العريضة المحددة حتى إنجازها.

 

خطاب الرئيس الصيني كان بمناسبة تخليد عشرية مبادرة "الحزام والطريق"، وهي مبادرة من بين العديد من المبادرات العالمية التي أطلقتها الصين خلال السنوات الأخيرة، استشرافا لمستوى التغيير غير المسبوق الذي يعرفه العالم، وتوجيها لدفة الاهتمام نحو التعاون والشراكة، والتنمية والازدهار، بدل الصراع، والقتل، والدمار.

 

مبادرات متعددة

خلال العقد الأخير، أطلقت الصين العديد من المبادرات والمشاريع والبرامج في إطار سعيها لتوسيع علاقاتها وشراكاتها العالمية، وإيجادها لـ"نمطها الخاص" في التعاون الدولي، بعد أن أقامت بنجاح كبير - شهد به حتى "أعداؤها" – أنموذجها التنموي والاقتصادي والعلمي.

 

ومن أبرز المبادرات الصينية العالمية، "مبادرة الحزام والطريق" (الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين)، وقد أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ في شهر سبتمبر 2013، من جامعة نزارباييف الدولية بكازاخستان، وتنطلق هذه المبادرة من إرث وتجربة طريق الحرير القديم الذي كان يربط الصين بآسيا وإفريقيا وأوروبا.  

 

تسعى هذه المبادرة إلى أحياء علاقات الصين التجارية من خلال تنشيط ممرات تجارية، وإقامة بنية تحتية عامة مع التركيز على مجال الطرق البرية وسكك الحديد، إضافة للموانئ، تتبعا للطرق التجارية القديمة، وتجاوزا لها في كل الاتجاهات.

 

انضمت لهذه لمبادرة - حتى الآن – 152 دولة من بينها 52 دولة إفريقية، و21 دولة عربية، بالإضافة إلى حوالي 32 منظمة دولية (بينها جامعة الدول العربية، والاتحاد الإفريقي) وهذا ما جعل منها أكبر منصة للتعاون العالمي، وأكبر تجمع للدول والمنظمات بعد الأمم المتحدة.

 

في إطار هذه المبادرة، وقعت الصين "علاقات شراكات استراتيجية شاملة" و"علاقات شراكة استراتيجية" مع العديد الدول حول العالم، ما أتاح لهذه الدول استفادة كبيرة من المشاريع التي تم تنفيذها في إطار هذه المبادرة، حيث تجاوز حجم الاستثمارات في إطارها تريليون دولار، وأكثر من 3000 مشروع حول العالم.

 

نجحت الصين خلال السنوات القليلة في الماضية في التربع على عرش التبادل التجاري مع الدول العربية، لتصبح أكبر شريك تجاري لها، حيث وصل الرقم خلال السنة المنصرم (2022) 442 مليار دولار أمريكي، بزيادة سنوية بلغت 30%، فيما انضمت 17 دولة عربية – حتى الآن – إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.

 

وقد أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال كلمته في افتتاح المنتدى الثالث أن التعاون في إطار "الحزام والطريق" دخل مرحلة تنفيذ التفاصيل الدقيقة بعد مرحلة وضع الخطوط العريضة، أي تحويل الخطط إلى الوقائع، مؤكدا إنجاز عدد كبير من المشاريع المميزة، والمشاريع الصغيرة والنافعة لمعيشة الشعب..

 

وأضاف شي أن التعاون في إطار "الحزام والطريق" توسع من الترابط الصلب إلى الترابط الناعم، إذ أصبح التشاور والتشارك وتبادل المنافع والانفتاح والخضرة والنزاهة والمعايير العالية وتحسين معيشة الشعوب والتنمية المستدامة مبادئ توجيهية مهمة للتعاون في بناء "الحزام والطريق" بجودة عالية.

 

كما أطلقت الصين مبادرات عالمية أخرى، من بينها "مبادرة التنمية العالمية" التي أطلقها الرئيس الصين يوم 21 سبتمبر 2021 خلال خطابه في الدورة الـ76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكد خلالها أنه "لا بد لنا من العمل على إنعاش الاقتصاد وتحقيق تنمية عالمية أقوى وأكثر اخضرارا وصحة".

 

ورأى الرئيس الصيني أن "التنمية مهمة رئيسية لتحقيق سعادة الشعب"، داعيا إلى الالتزام بأولوية التنمية، والشعب جوهرها، والالتزام بالشمولية والابتكار، والتمسك بالتعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة، والبقاء موجها نحو العمل.

 

كما دعا الرئيس الصيني من منصة الأمم المتحدة المجتمع الدولي إلى تعزيز التعاون في مجالات مثل الحد من الفقر، والأمن الغذائي ومكافحة الأوبئة وتوفير اللقاحات وتمويل التنمية ومواجهة تغير المناخ وتشجيع التنمية الخضراء والتصنيع والاقتصاد الرقمي والتواصل.

 

وتحدد الصين هدف هذه المبادرة في "تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، وكسر اختلالات التنمية، التي توفر "سرعة" للنهوض بخطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة لعام 2030، وتخلق قوة قوية لتعزيز تنمية عالمية أقوى وأكثر اخضرارا وصحة، وبناء مجتمع المصير المشترك للبشرية.

 

وتعمل الصين من خلال هذه المبادرة على بناء منصات تعاونية عالمية في المجالات الثمانية التي حددتها ذات أولوية، وهي:

- الحد من الفقر

- الأمن الغذائي

- الاستجابة للجائحة واللقاحات

- تمويل التنمية

- تغير المناخ والتنمية الخضراء

- التصنيع

- الاقتصاد الرقمي

- الاتصال في العصر الرقمي

 

وتؤكد تشجيعها لتعزيز تشارك المعارف وبناء القدرات من أجل تعزيز التنمية.

 

وقد استضاف الرئيس الصيني شي جين بينغ في يونيو 2022 حوارا رفيع المستوى حول هذه المبادرة، دعا فيه إلى بذل جهود مشتركة لتعزيز التنمية العالمية وتدعيم أنموذج تنمية يتميز بالنفع للجميع والتوازن والتنسيق والشمول والتعاون المربح للجميع والازدهار المشترك.

 

كما أعلن الرئيس شي خلال هذا اللقاء عن نية الصين إعادة هيكلة صندوق المساعدة لتعاون جنوب/جنوب وترقيته إلى "صندوق التنمية العالمية وتعاون جنوب/جنوب" وزيادة مليار دولار أمريكي إضافي إلى الصندوق على أساس أصوله البالغة 3 مليارات دولار أمريكي، كما تعهد بأن تزيد الصين استثمارها في صندوق الأمم المتحدة للسلام والتنمية.

 

وفي إبريل 2023 أصدرت الوكالة الصينية للتعاون الإنمائي الدولي مبادئ حول طرق المشاركة وقواعد الإدارة لتمويل مشاريع التنمية العالمية لتساهم في التشجيع على زيادة الموارد لتنفيذ المبادرة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وأكدت سعي الصين من خلال هذا المبادرة لمواجهة التحديات بشكل مشترك مع بقية الدول من أجل خلق مستقبل أفضل لشعوب العالم، وخلق بيئة مواتية لتسريع وتيرة التنمية بين مختلف الدول وتحسين نظام الحوكمة العالمي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لمختلف الدول، وعدم اتخاذ قوانين أحادية الجانب، بالإضافة إلى التشاور حول الأسواق الناشئة وذلك للارتقاء بالمجتمعات والشعوب وتحقيق الكسب المشترك.

 

وأكدت الصين أنها نفذت في هذا الإطار الصين آلاف المشاريع الكبرى، ووفرت مواطن شغل في مختلف الدول، وساهمت في توفير سبل الراحة للعديد من الشعوب الأخرى، كما قدمت دورات تدريبية للكفاءات حول العالم من خلال المشاريع الصينية في الخارج، معتبرة أن ذلك أضفى المزيد من التعاون المشترك بين الصين ودول العالم.

 

وكانت ثالث المبادرات الصينية العالمية "مبادرة الحضارة العالمية"، وقد أعلن عنها الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال الاجتماع رفيع المستوى لحوار الحزب الشيوعي الصيني مع الأحزاب السياسية العالمية، يوم 15 مارس 2023.

 

وأكد الرئيس الصيني خلال كلمته التي أعلن فيها عن المبادرة أن التسامح والتعايش والتبادلات والتعلم المتبادل بين الحضارات المختلفة كلها أمور تلعب دورا لا غنى عنه في دفع عملية تحديث البشرية وازدهار حديقة الحضارة العالمية، نظرا لأن مصير جميع الدول مرتبط ارتباطا وثيقا في الوقت الراهن.

 

أما رابع المبادرات العالمية الصينية الكبرى، فهي مبادرة الحياد الكربوني، وقد أعلن عنها الرئيس الصيني شي جين بينغ في سبتمبر 2020، خلال الدورة 75 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكد من خلالها سعي بلاده بجهودها القصوى إلى بلوغ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون فيها ذروتها قبل حلول عام 2030، وتحقيق الحياد الكربوني قبل عام 2060.

 

ويصف الصينيون هذه المبادرة بأنها "طموحة" و"جريئة"، مشيرين إلى أنهم يعلمون على خفض حصة الفحم والنفط والغاز من 80% من الوقود لتوليد الكهرباء، إلى 14% في حدود 39 عاما.

 

ولا يجد الصينيون غضاضة في الاعتراف بأن بلادهم هي "كلمة السر" في الحد من تغير المناخ، ومساعدة العالم على الاقتراب أكثر من تحقيق الأهداف المناخية المشتركة، لكونها أكبر مستهلك للطاقة عالميا، وأكبر دولة مطلقة للانبعاثات الضارة بالبيئة، حيث تمثل ثلث انبعاثات العالم الكربونية".

 

وقد أصدرت القيادة المركزية (أي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ومجلس الدولة) وثيقتين في أكتوبر 2021، أولهما حول إرشادات العمل لتحقيق بلوغ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ذروتها والحياد الكربوني، والثانية حول خطة العمل لتحقيق وصول الانبعاثات الكربونية ذروتها بحلول عام 2030.

 

وبموجب الوثيقتين تم إدراج أهداف هذه المبادرة في خطط التنمية الطويلة والمتوسطة الأجل لدفع "الانتقال الأخضر" للمجتمع الصيني، وتعديل هيكل الصناعة مع تسريع تنمية الصناعات الخضراء، وتسريع تنمية الطاقات الجديدة غير الأحفورية، وترشيد استخدام الطاقة في جميع المجالات، ورفع قدرة بالوعة الكربون للنظام الإيكولوجي، وإكمال المنظومة القانونية المختصة في المجال.

 

كما أنشئت بموجب هاتين الوثيقتين سوق للكربون على مستوى الصين، وتم إطلاق آلية داعمة للحد من الانبعاثات الكربونية من طرف البنك المركزي الصيني، وأقرت لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية (CSRC) زيادة الدعم التمويلي الخاص بالمشاريع الخضراء ومنخفضة الكربون، كما تقررت الاستفادة من التكنولوجيا الفائقة في المجال، وتم إطلاق قمر صناعي باسم (قومانغ  (句芒لرصد الكربون في النظام الإيكولوجي، إضافة لتأسيس معاهد أبحاث وأكاديمية للعلوم في قطاع تحييد الكربون.

 

ولم يخل المجال السياسي من المبادرات الصينية، حيث تابع العالم المبادرة الناجحة لرعاية التقارب الإيراني السعودي، وهو الذي أزاح كاهل توتر مقلق كان يتهدد منطقة مهمة من العالم، ويمكن لأن انزلاق فيها أن يدخل العالم في مآزق متعددة.

 

كما أن تعيين الصين مبعوثا خاصا لها إلى الشرق الأوسط منذ العام 2019، هو الدبلوماسي الصيني "تشاي جون"، يعكس إدراكها للدور المطلوب منها في العمل على تخفيف التوتر حول العمل، والتوسط لنزع فتيل أزماته المستحكمة منذ عقود.

 

ويعكس الموقف الصيني من التطورات الحاصلة في فلسطين ما بعد عملية "طوفان الأقصى" إدراكا لجذور الأزمة، وإصرارا على إعادة العالم إلى النظر لها في شمولها، وليس الاقتصار على الأعراض والأحداث الجانبية والتفصيلية.

 

وفي الحلقة الثانية نتناول التجربة التنموية الصينية الملهمة، أسباب نجاحها، ومعالمها ونتائجها.

 

نقلا عن مركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية

 

27 January 2024