غزة والإعلام الغربي.. مظاهر التحيز والتضليل
سأحاول في هذا المقال تسليط الضوء على بعض المظاهر والآليات التي تميز تغطية الإعلام الغربي للعدوان على غزة، من خلال تتبع تعاطي هذا الإعلام مع أحداث السابع من أكتوبر وما تبعها من تطورات، ويمكن في هذا السياق القول إن الأمر أشبه باستراتيجية منظمة ودقيقة، حيث يُلاحظ التزام غالبية هذه الوسائل الإعلامية بأدواتها وأدبياتها.
نبدأ بأحداث السابع من أكتوبر أو طوفان الأقصى والتي قام الإعلام الغربي بإخراجها تماما من أي سياق تاريخي أو سياسي أو أمني، كما قام بحجب أي معلومات قد تساعد المشاهد على استيعاب أو البدء في التفكير في وجود تراكمات أدت إلى هذه الأحداث. فلا وجود لأي تفصيل أو إحالة منذ العام 1948 وحتى اليوم، ومن خلال هذه الاستراتيجية يمكن بسهولة التعرف على من تعرضوا لهذا النوع من غسيل الدماغ، لأنهم يبدون مغيبين عادة ويكررون نفس المصطلحات التي قام هذا الإعلام بحقنهم بها.
ومن أدبيات هذه التغطية هو التركيز دائما على قتلى الكيان الإسرائيلي، كما فعلت الديلي ميل البريطانية، من خلال تجاهل الأرقام الكبيرة للشهداء الفلسطينيين، واستخدام فعل "قُتل" بالنسبة للإسرائيليين و"مات" بالنسبة للفلسطينيين.
من جهة أخرى، تستخدم إسرائيل فزاعة معاداة السامية من أجل ترهيب الإعلام الغربي، والتي تُخرجها في كل مرة تقرر فيها حظر مصطلح أو تعبير لا يناسبها، وتحت هذه اليافطة تخلق لنفسها مساحة كبيرة، يستغلها مسؤولوها في تغذية هذا الإعلام بروايات وقصص مضللة ومزيفة.
التضليل لا يتوقف عند هذا الحد، فالبي بي سي قامت بفبركة ترجمة لتصريح محررة فلسطينية، قالت فيه إن الاحتلال قطع عنهم الكهرباء وكادوا يموتون من شدة البرد، بينما ترجمت الشبكة التصريح إلى "وحدها حماس من تهتم بنا، ونحن نحبهم جدا" ورغم أن الشبكة اعتذرت واعتبرته خطأ غير مقصود، إلا أن استمرارها في وصف أحداث السابع من أكتوبر بأوصاف مثل " الوحشي" ووصف الإيكونيميست لها بــ"المتعطش للدماء" ثم تجاهل بشاعة ووحشية الاحتلال والتي تسببت في استشهاد الآلاف أغلبهم من النساء والأطفال، يكشف بوضوح عن تحيز هذا الإعلام واصطفافه.
وفي نفس السياق، يُعتبر تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم من أساسيات هذه الخطة الإعلامية، حيث يعتبرهم هذا الإعلام مجرد أرقام، بينما يخصص صفحات كثيرة لسرد قصص من حياة القتلى الإسرائيليين مستخدما صورهم ومقاطع من يومياتهم بالإضافة إلى نشر شهادات لأفراد من عائلاتهم ومعارفهم، ولعل ما قامت به صحيفة الغارديان يُقرب الصورة قليلا، عندما ذكرت أن الأسرى الإسرائيليين الذين أُطلق سراحهم في عملية تبادل عبارة عن "نساء وأطفال" بينما لم تستخدم هذا الوصف فيما يتعلق بالأسرى الفلسطينيين المحررين رغم أنهم نساء وأطفال فعلا. ولعل أكثر أمثلة التضليل وضوحا هو استخدام الفعل المبني للمجهول عند الحديث عن سقوط ضحايا فلسطينيين، فالصياغة دائما "قُتِل فلسطينيون..." بينما يعتبر الفاعل واضحا ومكشوفا في كل مرة يسقط فيها قتلى إسرائيليون.
ومن نماذج هذا النوع من التحرير هو ما تقوم به البي بي سي والواشنطن بوست عندما تستخدمان مصطلح "الانفجار" عند الإشارة إلى المتسبب في مقتل الفلسطينيين، وكأنه انفجار تسببت فيه الطبيعة الأم. كما أن من يطلق النار على فلسطيني أعزل ليس جنديا إسرائيليا في نظر هذا الإعلام وإنما "رجل يرتدي زيا عسكريا".
ومن المواد التي لفتت انتباهي عند تحضيري لكتابة هذا المقال، المقابلة التي أجرتها شبكة "أن بي سي" الأمريكية ثم بي بي سي مع غازي حمد المتحدث باسم حركة حمـ...ــاس، والتي جعلتني أجري مقارنة سريعة بينها وبين مقابلات مماثلة مع مسؤولين إسرائيليين، والفرق كان واضحا، فمقابلة غازي حمد كانت أشبه باستجواب والأسئلة كانت اتهامات وقحة، كما أن المُحاور بدا غاضبا ومُستفَزا، بينما ظهر محاورو الجانب الإسرائيلي في حالة من الصفاء والهدوء وكانت أسئلتهم كلها عاطفية وتضامنية ومُجامِلة.
من الأعمدة الصلبة لهذه الاستراتيجية الإعلامية أيضا هو تسويق مفهوم "الدفاع عن النفس" من خلال إقحامه في سؤال يُطرح يوميا على كل الضيوف "أليس من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها؟" وتحت هذا السؤال المفخخ الكثير من السرديات المضللة والتي لا يتردد الإعلام الغربي في تبنيها ومشاركتها مع العالم. ومنها تكراره لقضية استخدام المستشفيات كمخابئ وقواعد عسكرية في محاولة لتهيئة الرأي العام لما سيحدث من قصف وتدمير لها بعد ذلك. ورغم أنهم تخلوا عن قصص مختلقة مثل إعدام الرُضع واغتصاب النساء في المستوطنات، إلا أنهم عوضوا ذلك بالتعتيم على حديث أسيرة إسرائيلية سابقة في غزة والتي أشادت في جزء كبير من كلامها بالمقاومين وبحسن المعاملة الذي لقيته منهم، فاختارت عنوانا بعيدا تماما عما تحدثت عنه المرأة من خلال التركيز على التعب والصعوبات التي واجهتها وهو أمر طبيعي فهي لم تكن في نزهة أو في زيارة روتينية لأحد أقربائها.
هذه الاستراتيجية القائمة على التضليل والتحيز، يمكن ربطها بتصريح أدلى به رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق يائير لابيد، عندما خاطب الصحفيين في نهاية أكتوبر الماضي قائلا "لا تكونوا موضوعيين عند نقلكم للأحداث، لأن ذلك يخدم حماس"، هذا الكلام وللمفارقة الصادر عن صحفي قبل أن يكون سياسيا، هو الخط التحريري لهذه القنوات، فسي أن أن وبي بي سي ودوتشفله الألمانية وفوكس نيوز وأني بي سي والغارديان والديلي ميل والنيويورك تايمز والواشنطن بوست إلى آخر اللائحة، حريصة كلها على تدعيم وتغليب السردية الإسرائيلية على حساب نظيرتها الفلسطينية، ضاربة بعرض الحائط كل المواثيق والاتفاقيات والأخلاقيات التي تنظم وتحكم هذه المهنة.