عشرُ سنواتٍ في جامعة انواكشوط
نتمنى ونحن نستقبل هذا العام الجديد أن يكون عام خير وبركة وصحة وتوفيق، وأن يكون عام ازدهار وتقدم للوطن.
أستقبل هذا العام بكثير من الأمل؛ المشوب بقليل من قلق التحديات، المصاحبة للطموح والسعي الحثيث إلى الأهداف..
أستقبل هذا العام؛ وأنا أستعيد ذكريات مختلفة، حُفرت في الذاكرة، تختزل عشر سنوات من التدريس في جامعة انواكشوط..
عشرُ سنوات في مجال التدريس في التعليم العالي في موريتانيا، تُلخص كثيراً من المشاهد والوقائع والدلالات، منها ما هو إيجابي يستحق التعزيز، ومنها ما هو دون ذلك؛ مما حقُّه التصحيح والتعديل اللازم.
الحقيقة أنها رحلة مليئة بالتحديات والإنجازات.. بدأت هذه التجربة بشغف التعليم والتعلم والرغبة في نقل المعرفة.. وصاحَبَها إحساس بالمسؤولية العظيمة في أداء هذه الأمانة، والتفاني في هذه الرسالة النبيلة، بُغية تبادل الأفكار مع الطلاب، ومشاركتهم رحلة اكتساب المعرفة، والأخذ بأيديهم بلطف تربوي واعٍ إلى فضاءات التحصيل الجامعي الواثق، لبناء جيل صالح ناضج؛ خدمة لوطننا الحبيب.
بداية رحلتي في هذا العقد من التدريس؛ سبقتْها ثلاث سنوات من التدريس في الجامعات الفرنسية.. وقد حاولتُ أن أستفيد من كل تجاربي، لتقديم محاضراتي في جامعة انواكشوط، بطريقة متفاعلة وحيوية، تستوعب كل تجربة مفيدة، دون أن تغفل خصوصية المكان، ووضعية الطلاب وطبيعة تفكيرهم وبيئاتهم.
وبعد هذه الرحلة، أشعر بغبطة وحسرة في الوقت نفسه، تَبعاً للمؤشرات الإيجابية المحفِّزة، والعقبات المعترِضة المزعجة.
ربما يرى قارئ هذه السطور؛ أن عشرَ سنوات فترةٌ قليلة، مقارنة مع زملاء آخرين -وهي رؤية لها حظ من النظر- لكنني شخصيّاً من منظور محاضرٍ ممارِسٍ، أراها فترة كافية لاستخلاص العبر، وتقويم الاعوجاج وإصلاح الخلل، وطرح أسئلة صريحة؛ على نفسي قبل أن أشرك فيها من يهمه الأمر؛ والكل يهمه الأمر حين يتعلق بما هو جامع عام، مثل الحديث عن العملية التربوية، ومستقبل الأجيال، ووضعية أهم مؤسسة لإعداد النخب الوطنية (جامعة انواكشوط).
من البديهي أن هذه السطور؛ لعفويتها، ليست إلا بوحاً عابراَ، يجمع الذاتيّ بالجمعيّ، ولن يفلح في وضع حد واضح بين ما هو نفسيٌّ عابر؛ وما هو عملي تطبيقي.. فعلاقة المدرس بلوازم الدرس (المؤسسة - الطلاب - الإدارة - الفصول)؛ هي علاقة معقدة، تشتبك فيها الكثير من الأمور والخواطر، العصية على الجمع المستعجِل في نص واحد.
لذا فإن ترتيب هذه الأفكار؛ لن يكون بالضرورة، ممنهَجاً ومرتباً بما يكفي..
الأستاذ الجامعي -لأهمية دوره- من نخبة المجتمع؛ إن لم يكن من نخبة نخبته -أو هكذا يُفترض في الأكاديميات الجادة- وعليه يُنتظر منه الكثير.. يُنتظر منه العطاء غير المحدود، والحفاظ على الشرف والقيم بصفته قدوة ومثالاً وموجِّهاً.. وبالمقابل يتحتم على المجتمع أن يُنزل الأستاذ المنزلة اللائقة به، من حيث التقدير والاهتمام، لا أن يُترك مهمَلاً، تتنازعه الظروف غير الملائمة، في فضاءات الدرس، وطبيعة المكافآت، وعدم توفير جو علمي دافعٍ إلى الإنتاج والتجديد.
لن أنسى أبداً -ذلك اليوم- أول يوم دخلت فيه جامعة انواكشوط بصفتي أستاذاً سنة 2013، وذلك بعد إكمال دراساتي العليا في علوم التسيير في فرنسا، إضافة إلى خبرة تدريس في جامعة رِينْ وجامعة ستراسبورغ.. ذلك اليوم شكّل لي نقطة انطلاق جادة نحو المساهمة المباشرة في جهد وطني، يقع على عاتق الجميع.
وبعد أن أنفقت عشر سنوات متتالية في جامعة انواكشوط، تتعاطاني المدرجات الضاجّة بالطلاب المتحمسين؛ في كل مجالات علوم التسيير المتشعبة، وأصغيتُ لهم وهم يطرحون إشكالاتهم ويبنون أسئلتهم المتفاعلة، ويبسطون رؤاهم ويبدون ملاحظاتهم أثناء الدرس.. وبعد أن زاملت نخبة من الأساتذة المميزين، واستمعتُ إلى تجاربهم ووضعياتهم في هذا المسار الصعب.. وبعد أن وقفتُ على كل العقبات والعوائق التي تعترض عملية التعلم والتعليم برمتها في جامعة انواكشوط، أورد الملاحظات التالية؛ بصفتها نقاطاً جوهرية تستحق العناية والاهتمام:
أولا
الظروف المادية للأستاذ مقلِقة، وإحساسُه بالظلم مخترِق، عندما يرى أن النظر إليه لا يستصحبُ التقدير والاهتمام وكأن دوره دور هامشي، لا يُلتفت إليه، إضافة إلى أن المهام في تسيير الشأن العام لا توزَّع حسب الكفاءة، ولا تمرّ باستشارة أهل العلم والخبرة، والأستاذ الجامعي أولُهم.
ثانيا
لعنة السياسة في البلد تلاحق كل شيء؛ وتعيق انسيابية تسيير المؤسسات أكاديميّاً، والأستاذ الجامعي -نتيجة ما هو مكرَّسٌ- إذا لم يزاول السياسة، يبقى بعيداً عن فرص المساعدة في تنمية بلده، ويُتناسى ويُعزَل.
ثالثا
التعيين وإتاحة الفرصة في المؤسسات عموماً، تابعٌ للحضور السياسي؛ ويأتي -حصراً- مكافأة على جهد سياسي قيمَ به، بعيداً عن ألوان العطاء المؤثرة الأخرى، وآكدُها العطاء العلمي، والجهد الأكاديمي، الذي يأخد كل وقت الإنسان وجهده وطاقته.
ومن الطبيعي أن الأستاذ الجامعي بمؤهلاته وتجاربه؛ إذا زاول السياسة بطرقها السليمة، سيتمكن بأفكاره من مساعدة صفه السياسي، لكن نسختنا من السياسة، للأسف الشديد، نسخة قذرة؛ وكل الوسائل المباحة والمحرمة؛ المألوفة والغريبة؛ تُستخدم فيها للوصول إلى الهدف.
قد يقول قائل إن هذه السطور؛ ركّزت على وضعية الأستاذ الجامعي من حيث النظرة إليه، والمردود المادي الذي يتقاضاه؛ وهو أمرٌ له ما يبرّره، فنحن لسنا بدعاً من الدول، ذات الجامعات العريقة والحديثة؛ وأي مقارنة بين وضعية الأستاذ الجامعي في موريتانيا والأستاذ الجامعي في دول الجوار -دعك من الدول المتقدمة- سيدرك صاحبها تردّيَ وضعية الأستاذ لدينا.
هذا بالإضافة إلى أن تعويض الأستاذ الجامعي عندنا -رغم ما أنفق من عمره في الحصول على أعلى الشهادات- لا يقارب تعويض كثير ممن يتقاضون رواتب كبيرة؛ في مناصب وتكليفات شكلية؛ لأشخاص أقل كفاءة وأدنى تكويناً من الدكاترة الجامعيين.
لذا يبقى الأستاذ معرضاً للبقاء في ظروف مادية ونفسية صعبة؛ تحُدّ من عطائه، ومردودية رسالته التربوية.
وليس في القضية حرجٌ؛ ولا بد من إصلاح خللها، فالإنسان بطبعه -والأستاذ إنسان! - يبحث عن عيش كريم، ومستقبل واضح له ولأسرته.
خلافاً لما يتوهمه كثيرون؛ فإن تكوين الأجيال في علوم متخصصة؛ بحتة أو إنسانية، ليس أمراً سهلاً، أو تكليفاً عابراً، بل هو مسؤولية تحتاج جهداً مضاعَفاً وإخلاصاً وتحملاً، والأستاذ الجامعي يعطي كثيراً من وقته، في مواكبة جديد البحث؛ وتحديث المعلومات، وتبادل الأفكار والرؤى بطريقة أكاديمية مع الطلاب، لتكوين الأجيال وفق المناهج الحديثة؛ المواكِبة لطبيعة العصر وتسارع وتيرته، وهي مواكبة تستغرق الوقت، وتحتاج الجدّ والتفرغ لإنتاج المعرفة، وإيصالها بدقة وحرفية.
مما سبق يتضح أن الاستاذ الجامعي -الذي هو المرتَكز الأول- عندنا معرض للضياع بين ظروفه المادية، ومطالبته بمزاولة مهنة أكاديمية صعبة، تتطلب التفكير البناء والطرح العلمي الرزين. إذا كانت الظروف المادية ضعيفة؛ فذلك مؤثّرٌ لا محالة على العطاء والأداء، وهو ما نراه متفشياً في جامعتنا، مع العلم أن الكفاءات الوطنية النظيفة القانعة بما كتبه الله تعالى -وهي قليلة جدّاً- تواصل جهاد العلم والتعامل مع الوضع بكل نبل وجدية وتحدٍّ.
قصص كثيرة يرويها زملائي بمرارة؛ تختزل ما يتعرض له الأستاذ الجامعي من ضياع.. منها قصة زميل لي -لن أذكر اسمه؛ لكنه أستاذ منذ أكثر من ثلاثين سنة- حدثني مؤخراً عن وضعه المادي الذي هو بسيط جدّاً (منزل في حي شعبي وراتب زهيد وأسرة لا بد من إعالتها)، والسبب أن هذا الأستاذ شق لنفسه طريقاً سليماً، بعيداً عن المال الحرام؛ وليس نادماً على ذلك، لكنه نادم على عدم مزاولته لنشاطات تجارية، كانت ستؤمّن له دخلاً مريحاً وحلالاً، بينما ذهبت جهوده في الفضاء الأكاديمي الوطني هباءً، مع العلم أنه لو كان أمضى ما أمضى من عقود في جامعة أخرى غير جامعتنا؛ لكان وضعه أحسن بكثير.
بعد القصص التي سمعتها من أصحابها دون واسطة، وما شاهدته بنفسي من عوائق وأوضاع صعبة، تتخلل يوميات الأستاذ الجامعي، أراني -بعد عشر سنوات من الإصرار في هذا الفضاء الصعب؛ على التدريس في جامعة انواكشوط- محتاراً بين تقييم الماضي، وتحديات الحاضر، واستشراف المستقبل..
مع التنبيه إلى أن الواقع المشاهَد في الوطن، يُجبر الأستاذ على الابتعاد عن التفرغ لمهنته، وتُحفّزه البيئة ليكون سياسيّاً؛ ولا تفرض عليه الوقائع والحوادث المرتبطة بتسيير المؤسسات أن يكون مستقيماً جادّاً مخلِصاً.
وبين تلك الدروب الصعبة؛ والدوافع المتناقضة، يجد الأستاذ الجامعيّ نفسه نهباً لخواطرَ وأفكار وأحوال وأوضاع، تشغل ذهنه، وترهق عقله، وتشوش على تفكيره؛ وهو المعَدُّ أصلاً لصقل الأفكار، وإعداد العقول.
ولله الأمر من قبل ومن بعد
بقلم الدكتور مولاي عبد القادر مولاي اسماعيل