طوفان الأقصى، وبداية مسار التّحول الكبير

المعركة مع العدوّ الصّهيونيّ، ليست معركة يوم أو ليلة، بل هي طويلة المدى وذات أبعاد متعددة وجبهات مختلفة،

 

وإذا أردنا أن نلقي لمحة تحليلية خاطفة على ما فات من مجريات معركة طوفان الأقصى، فإنّنا وبعد التّمعن في ما حصل وما يحصل الآن سنخرج بالمعطيات التّالية:

 

أنّ العدوّ ما يزال متفوقا من النّاحية العددية والعتادية، رغم حالة التّخبط والارتباك البادية ورغم الخسارة الأولية. هذا ممّا لا شكّ فيه من ناحية المقارنة المادية البحتة.

 

فالكيان الصّهيوني، يمثل البنت المدلّلة لكافة قوى الاستكبار العالمية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الاميركية، وفوق ذلك فهم يمتلكون جيشا من أقوى الجيوش العصرية من الناحية التّقنية والعتادية، ونظاما أمنيًا واستخباراتيا من أسوأ وأكثر الأنظمة الأمنية والاستخباراتية حنكة ومهارة وقذارة ونذالة.

 

وهذا سيقودنا إلى أنّ الكيان الصّهيوني ورغم الخسارة الأولية كما ذكرنا، إلا أنّنا نعلم أنّه سيبطش البطشة الكبرى، ولن يدّخر جهدا في محاولة المحق والمحو لأماكن ومراكز المقاومة في غزّة، عبر تكثيف الضربات وتوسيع نطاق العمليات؛ وسيركزون في المقام الأوّل على سلاح الجبان الذّليل "سلاح الجو" وسيعمدون من خلاله إلى حرق الأرض بمن عليها من البشر والشّجر والدّوابّ والأبنية، وذلك عبر القصف العشوائي المكثّف، حتى تكون الضريبة باهظة وثقيلة على كاهل المقاومة (دمار واسع؛ وضحايا بأعداد مهولة). ممّا يجعل المقاومة وقيادتها في حرج سياسي وأخلاقي كبير أمام شعب غزّة والعالم أجمع، في تحمّل مسؤولية إعادة الإعمار، وتوفير المأوى لذوي الضحايا وتخفيف آلامهم وما حدث لهم من أضرار جرّاء الحرب.

 

كما أنّهم (أي العدو) لن يدخروا جهدا لمحاولة تسجيل بعض النقاط المهمة التي ستعيد لهم الاعتبار وتضعهم في موقف قوّة أثناء التّفاوض، كالسّعي لتنفيذ بعض عمليات الاغتيال النوعية، تطال – لا قدّر الله - بعض الشخصيات المهمة في القيادة السياسية أو العسكرية لفصائل المقاومة، وفي مقدمتهم بكلّ تأكيد حركة المقاومة الإسلامية "حماس".

 

وقد تسوّل لهم أنفسهم - الأمّارة بالسّوء - ويزيّن لهم إخوان الشياطين من المطبعين أن يُقْدِموا على محاولة الاجتياح البرّيّ متشجّعين بالتّغطية الجوية عبر الطيران الحربي، السلاح الأول والأقوى في يد العدو الصهيوني.

 

ومستفيدين من تجارب الجيش الأمريكي الذي سيكون معهم بكل تأكيد بسلاحه وخبرته وربما بعناصره.

 

لكنّ الخطوة الأخيرة لن تكون نزهة بطبيعة الحال؛ بل ستكون جهنّمية، وستكون تكاليفها مجحفة وباهظة، ولا أظن أنّ الكيان في وقته الحالي يمتلك من المقومات ما يجعله مستعدا لدفع فاتورة ما سيترتّب عليها.

 

ومع ذلك فإنّ الطموح القديم المتجدد لدى الكيان لدخول غزة والسّيطرة عليها، وكذا الشعور بعار الهزيمة في بداية المعركة، إضافة إلى الحرج الشديد الذي أصيبت به حكومة "النّتن" ياه، وحلفاؤها من المطبعين، أمور قد تدفع مجتمعة بالكيان الصّهيوني للاستماتة في محاولة الاجتياح البرّيّ، دفعا لحرج الهزيمة ورفعا لمعنوياته وحلفائه المهزوزة، وتحقيقا لغايته الكبيرة في إنهاء شبح الرعب الجاثم على صدورهم، والمتمثل في المقاومة العسكرية المتمركزة في القطاع.

 

لكنني أعيد وأكرّر أنّني على يقين - من ربّي - أنّ محاولتهم ستبوء بالفشل الذريع.

 

وذلك لعدّة أسباب منها الماديّ والمعنويّ.

 

فالقسّام وفصائل المقاومة عموما، لا شكّ أنّهم يتمنّون لقاء العدوّ من مسافة الصفر، وخاصة إذا كانت المعركة على أرضهم، أرض غزّة التي خبروها وشيدوا فيها الأنفاق، وأعدّوا فيها كامل العُدّة.

 

وعليه فإنّ أيّ محاولة من العدوّ للإقدام على الاجتياح البريّ ستكون بموجبها أرض غزّة الطاهرة مقبرة للغزاة، وستقع الملحمة العظمى، وسنكون على موعد عظيم مع يوم الفرقان.

 

وقبل هذا وبعده، فإنّني أثق بقرب تحقّق موعود الله للمؤمنين بالنّصر، وما أظن القسّام وفصائل المقاومة في غزّة إلا من تلك الطائفة المنصورة التي سيحقّق الله على يديها النّصر ويعيد بها التّمكين.

 

وما هذه المعركة إلا نقطة تحول وبداية مسار جديد في تاريخ هذا الصّراع؛ وما الضّربة الاستباقية النّوعية التي أقدمت عليها المقاومة صبيحة يوم السبت الماضي وما أحدثته من نقلة نوعية في مجريات الأحداث، إلا مؤشّر جديّ على أنّ زمن هوان الأمّة قد ولّى من غير رجعة، وأنّه قد آن أوان أن يقف المنادي، فينادي بأعلى صوته: اليوم نغزوهم ولا يغزونا.

 

فهذه الضربة الاستباقية غير المعهودة، قد قلبت الطاولة وأفسدت الحسابات، وأعادت ترتيب الأوراق من جديد،

 

ولن يكون ما بعد السابع من أكتوبر 2023، كما كان قبله أبدا.

 

فقد باتت المقاومة الاسلامية في غزّة تمتلك عناصر قوّة جديدة، أهمها امتلاك زمام المبادرة، وقد أحيت بذلك ما قد مات منذ زمن في نفوس أبناء الأمة، ألا وهو الشعور بالعزّة والمنعة والوقوف موقف المهاجم.

 

فمعركة طوفان الأقصى وما حقّقته من نصر في بدايتها أعاد لنا ذكرى مجد تليد كدنا ننساه أو نتناساه بسبب خذلان الأنظمة والهزائم المتتالية.

 

صحيح أنّ المعركة ما زالت في بدايتها، ولمّا يحن بعد موعد الحديث عن الانتصار أو الهزيمة، وإن كانت البدايات أحيانا تتيح استشراف النّهايات.

 

لكن أتوقّع أنّ المقاومة لن تفرّط أبدًا في المحافظة على ما حقّقته من مكاسب، ولن تقبل بأقل من المحافظة على تحقيق الانتصار في النّهاية، حتّى وإن كان عبر ركلات التّرجيح.

 

فبالتّأكيد ستعمل المقاومة بكلّ حزم وعزم على أن تحافظ على مستوى من الصمود وردود الفعل المدروسة، وتسجيل النقاط من حين لآخر في مرمى العدو، من خلال التسلّل إلى داخل المستوطنات، ونقل المعركة إلى ساحة العدوّ، إضافة إلى عمليات إسقاط نوعية لبعض المقاتلات الجوية، وقبل ذلك وأثناءه إحكام الاستهداف للأماكن الحيوية عبر الرشقات الصاروخية؛ وربّما فتح جبهات متعددة لتشتيت جهود العدوّ؛ حتى تحافظ بذلك على المكسب الكبير الذي حقّقته حتى الآن، والمتمثل في عنصر المفاجأة والمباغتة في تنفيذ العملية والانتصار الإعلامي الكبير والمخابراتي الرّهيب الذي حقّقته في بداية المعركة والذي سيصل صداه إلى ما بعدها.

 

وأظنّ بأنّ النّجاح الأمني والمخابراتيّ الذي حققته المقاومة لن يمرّ مرور الكرام، بل سيأخذ حيزا من وقت وجهد العدوّ لاحقا من أجل دراسته ومعرفة أسبابه وتفادي مخاطره في اللاحق.

 

فالحنكة والخبرة اللتين يتمتّع بهما الجهاز الأمني والمخابراتي للعدو، تجعل من سابع المستحيل أن يحصل ما حصل؛ ومع ذلك فقد بدى عاجزا ومرتبكا وفاقدا للبوصلة أمام الاختراق والتّفوق اللذين حقّقتهما المقاومة في هذه العملية البطولية صبيحة يوم السابع من تشرين الأول.

 

 وممّا يزيدنا طمأنة أكثر أنّ نقاط القوّة التي تمتلكها المقاومة الآن تجعل حسم المعركة النّهائية لصالحها أمر وقت وصبر ساعة، بإذن الواحد الأحد.

 

وسأذكر بعض هذه النّقاط على عجالة:

- أنهم حددوا وقت بدء المعركة على غير العادة، فقد كان العدوّ في السابق هو من يطلق الشرارة، حتى وإن عجز لاحقا عن إطلاق صفارة النّهاية، ممّا يعني أنّ المقاومة هذه المرّة ستكون أكثر عدّة وأقدر على الصمود لوقت أطول.

- يقاتلون على أرض قد خبروها ومن أجل مبدإ قد آمنوا به، وقبل ذلك هم في حالة دفاع عن النفس والأرض والعرض، على عكس الغزاة المحتلّين.

- يؤدّون واجبهم الدّينيّ في حماية الأرض المسلمة والدفاع عن الأنفس المؤمنة.

- كمية الأسرى ونوعيتهم؛ فهذا العدد وبهذه النّوعية، سابقة لم يسجلها التاريخ في حروب المقاومة مع الكيان الغاصب، وسيكون لها تأثير بالغ في مجريات المعركة من النّاحية النّفسية والمعنوية للجنود، وما بعد المعركة من النّاحية العملية على القادة وصنّاع القرار أثناء صفقة تبادل الاسرى وفرض بقية الشروط.

- يمتلكون حافزا معنويا، يزيدهم قوّة وعزيمة؛ ألا وهو "العقيدة" فهم في النّهاية موعودون من ربّ العزّة بإحدى الحسنيين: إمّا النّصر وإمّا الشّهادة.

 

وهذا الأخير هو أهمّ عناصر قوّتهم، وهو وسيلتهم الأقوى لتحقيق النّصر وحسم نتائج المعركة.

 

هذه نقاط خمس ضمن نقاط أخرى، ترجح كفة المقاومة، وتجعلنا نتوقع نهاية سعيدة تماما كتلك البداية المفرحة.

 

صحيح، أنّ الحروب جميعا لا بد في تحمّل أعباء كبيرة ودفع فاتورة باهظة، وخاصة معارك التّحرير وبالخصوص في أوقاتها الفاصلة؛ فأشد ساعات ظلام الليل الساعة التي تسبق الفجر؛ ولا شكّ أنّ هذه الحرب لن تكون كغيرها؛ لذا يجب على الأمة جميعا أن تتكاتف وتتعاضد وتتكامل مع المقاومة من خلال توفير كافة وسائل الدعم المادية والمعنوية؛ من أجل القيام بالواجب أولا، وحتّى تنال شرف المشاركة ثانيا.

 

وإنّ خذلنا المقاومة في هذا الوقت العصيب، بأيّ شكل من أشكال الخذلان، ليقوم مقام التّولّي يوم الزّحف - أعاذنا الله وإياكم - فالبدار البدار والحذر الحذر، واعلموا أنّ النّصر صبر ساعة، وأنّ مع العسر يسرا، وأنّ العاقبة للمتّقين، فاصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون.

 

وإنّنا على موعد مع النّصر قريبا قريبا {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} فما هي إلا أيام وتضع الحرب أوزارها ويبدأ الكيان البغيض بإعادة ترتيب أوراقه، ويبدأ في الانحسار، فتتبدّل الأولويات وتتغيّر الاستراتيجيات الكبرى، وتذهب أحلام التّوسّع وتفشل مساعي الخطّة الكبرى (صفقة القرن).

 

فبدل السّعي لتوسيع دائرة التطبيع الخارجية مع الدول الإسلامية، وزيادة أماكن الاستيطان الداخلية في الأراضي الفلسطينية، سيكون التّركيز على الدفاع والتحصين الدّاخليين أكثر أولوية عند العدوّ من الهجوم والاختراق كما دأب على ذلك منذ أمد.

 

وسيترك ذلك بلا شك أثرا إيجابيا على أرض الميدان مع العدو الغاصب، وسيلقي بظلاله حتما على مجريات الأحداث ومناطق الصراع في ميادين المغالبة عموما.

 

{لِلَّهِ ٱلْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنۢ بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍۢ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ}.

 

يحي عابدين

 

10 October 2023