هل تقف الولايات المتحدية الأمريكية خلف انقلاب النيجر؟
أدرك أن هذا السؤال قد يبدو غير وارد لدى عدد من المتابعين والمهتمين، بل إن بعضهم قد يراه مستفزا ومستبعدا، ومع ذلك فإن إلقاء نظرة على تطورات الأحداث في النيجر منذ 26 يوليو الماضي إلى الآن، وطبيعة التعاطي الأمريكي مع الانقلاب وما أعقبه قد "يخفف" من درجة "استفزاز" هذا السؤال.
إن المتتبع للمواقف الأمريكية المعلنة منذ الانقلاب الذي أطاح بالرئيس النيجري محمد بازوما سيلحظ أن هذه المواقف ظلت متسمة بالمرونة، ومسقوفة بمستوى من التصعيد لا تتجاوزه، حيث تحاشت الحديث عن وقوع انقلاب عسكري، مفضلة استخدام "المحاولة الانقلابية"، تبريرا لاستمرار التعاطي الرسمي، مع الحديث المستمر عن فرص للحل الدبلوماسي، ومقدمة "تطمينات" لمخاوف الأطراف الغربية والإقليمية من التطورات المفاجئة في هذا البلد المحوري ضمن الاستراتجية الغربية في منطقة الساحل.
تعد النيجر البلد الوحيد ضمن الدول الأعضاء في مجموعة دول الساحل الخمس التي يوجد فيها تمركز معلن للقوات الأمريكية، حيث يقدر عددها بنحو 1000 إلى 1100 جندي، وتعود بداية الإعلان عن هذه الوجود العسكري - الذي كان سريا في البداية - إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين غرب النيجر أكتوبر 2017، إثر تعرضهم لكمين من جماعة مسلحة، تبين لاحقا أنها تابعة لتنظيم الدولة.
ورغم أن وزارة الدفاع الأمريكية حاولت في البداية الالتفاف على حقيقية الوجود العسكري الأمريكي الميداني، من خلال حديثها عن دور تدريبي للجنود الذي تعرضوا للحادث، إلا أن الحقائق تكشفت تباعا، وتبين حجم الوجود العسكري الأمريكي في النيجر.
وقد تولت الولايات المتحدة الأمريكية ضمن أجنداتها حضورها في منطقة الساحل تنظيم تدريبات دورية لجيوش المنطقة، كان حظ النيجر منها وافرا، وخصوصا في صفوف ضباط الحرس الرئاسي، والذين تولوا كبر الإطاحة بالرئيس بازوم، وتم تنصيب قائدهم حاكما للبلاد.
قراءة في المواقف
تتشكل عناوين الموقف الأمريكي مما جرى في النيجر من أربعة مفاتيح تقريبا، هي تفادي وصف ما وقع بأنه "انقلاب"، مع ما يتيحه ذلك من التفاف على القوانين الأمريكية التي تفرض تعليق التعاون مع البلدان التي تشهد انقلابات عسكرية، وكذا عدم تعليق المعونات الأمريكية بشكل كلي لهذا البلد الذي يواجه أزمات عديدة ومستحكمة من بينها مستوى الفقر المدقع الذي يتخبط فيه.
أما المفتاح الثاني، فهو التأكيد على أولوية الحلول الدبلوماسية، وهو ما ورد على لسان أكثر من متحدث أمريكي، وأولهم رأس الدبلوماسية الأمريكية أنتوني بليكن، والذي عاد قبل يومين فقط ليجدد التأكيد على أن بلاده ما تزال تركز "بشدة على الدبلوماسية لتحقيق النتائج التي تريد، أي عودة النظام الدستوري"، مردفا أنه يعتقد أنه ما "تزال هناك مساحة للدبلوماسية لتحقيق هذه النتيجة".
المفتاح الثالث، كان كبح جماح مساعي التصعيد، حيث شكل الموقف الأمريكي، والتصريحات المتلاحقة كابحا فعليا للأصوات التي كانت متحمسة وتدق طبول الحرب، وأولها فرنسا، وبعدها المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، والتي اتضح لاحقا أنها بدأت في تملس خيوط رجعة عن موقفها التصعيدي المبكر، وذلك مع انتهاء المهلة الأولى دون أي بوادر لتنفيذها لتهديدها باستعادة نظام بازوما بالقوة.
ومع انتهاء المهلة، وترقب الجميع لقادم الخطوات، كانت القائمة بأعمال نائب وزير الخارجية فيكتوريا نولاند في نيامى، حيث التقت ضباط الحرس الرئاسي، والشخصيات القيادية في المجلس الوطني الحاكم، وهنا عادت مجددا "اللغة الدبلوماسية" الخاوية، والكلمات التي تموت قبل أن تقال، حيث أعربت عن قلق الولايات المتحدة الأمريكية البالغ إزاء التطورات التي تشهدها النيجر، وشددت على التزام بلادها الحازم بدعم الديمقراطية والنظام الدستوري.
ولم تتردد المسؤولة الأمريكية في وصف مهمتها في نيامى – بالتزامن مع نهاية مهلة إكواس وكسر الانقلابيين قيدا جديدا من قيود الضغط عليهم - بأنها "مهمة صعبة، ولكنها ضرورية من منظور المصلحة الأمريكية".
وقد كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن جانب من مقصود "نولاند" بالمصلحة الأمريكية، حيث أكدت أنها حثت العميد موسى سالاو بارمو – وهو عسكري يحظى بثقة الأمريكيين وشارك في العديد من تكويناتهم، ويشكل قناة تواصلهم مع الانقلابيين – على "التوسط في صفقة تسمح للنيجر وحلفائها الغربيين.. بالعودة لمحاربة تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية وجماعة بوكو حرام، ومنع هذا البلد من أن يصبح موقعا أفريقيا آخر لروسيا وجماعة فاغنر شبه العسكرية".
وحملت "نولاند" طمأنة من الانقلابيين حينما قالت إنهم "يدركون جيدا المخاطر التي تتعرض لها سيادتهم عندما تمت دعوة فاغنر إلى البلد".
المفتاح الرابع، هو التجاوز، أي تجاوز مرحلة الانقلاب سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا، فعلى المستوى الإعلامي بدأت التعليقات الأمريكية على الأحداث في النيجر تغرق في عمومية الحديث عن "استعادة المسار الدستوري والنظام الديمقراطي"، دون التصريح بضرورة عودة الرئيس المطاح، بل قصارى ما يقدمونه له هو التأكيد على سلامته، أو الدعوة لعدم محاكمته.
أما على المستوى السياسي والدبلوماسي، فقد برز الموقف الأمريكي من خلال اعتماد تعيين السفير الأمريكية الجديدة في النيجر كاثلين أ. فيتزجيبون من طرف مجلس الشيوخ الأمريكي يوما واحدا بعد الانقلاب، وتأكيد وزارة الخارجية وصولها إلى "نيامى" قريبا، فيما توقعت وسائل الإعلام التي تناولت الموضوع وصولها قبل نهاية الأسبوع الجاري.
ومع أن إجراءات الاعتماد لدى مجلس الشيوخ بدأت منذ إحالة ملفها من طرف الرئيس جو بايدن مارس الماضي، وقد يجادل مجادل ما بأنها كانت مقررة، وإن موعد 27 يوليو حدد قبل وقوع الانقلاب، فإن تطورا بحجم الإطاحة بالنظام في بلد ما قد يتطلب تعديل برمجة اختيار سفير فيه في انتظار انفراج الأمور، واعتبار ذلك ضمن "المواقف" الداعمة للديمقراطية.
أما ما لا يمكن المحاججة فيه فهو أن تعجيل سفر "كاثلين" إلى نيامى في هذه المرحلة موقف واضح، وقد يكون مفاجئا لمن يرون أن التساؤل عن الدور الأمريكي في الانقلاب غير وارد.
صحيح، أن الأمريكيين حاولوا "تلطيف" الموقف من خلال حديثهم عن عدم تقديم الدبلوماسية الأمريكية أوراقها للانقلابيين في الظرف الراهن، وكذا عدم تغير موقفهم من ملف النيجر، لكن مجرد عودتها ومباشرتها لممارسة مهامها يعني في أدنى درجاته، توصيل رسالة إيجابية عن الأوضاع في البلاد، وعن الموقف الأمريكي منها.
وربما تُعين السيرة الذاتية للدبلوماسية الأمريكية الجديدة على فهم طبيعة اختيارها لهذا المنصب، وإنهاء إجراءات اعتمادها في هذه الظرفية (عودة موضة الانقلابات في الغرب الإفريقي، وتهديد النفوذ الغربي في المنطقة بشكل عام، والفرنسي بشكل خاص)، فهي مديرة سابقة لمكتب التحليل الإفريقي في مكتب الاستخبارات والبحوث في وزارة الخارجية الأمريكية في واشنطن، كما تولت رئاسة قسم غرب وجنوب إفريقيا، وكانت نائبا لرئيس البعثة الأمريكية في نيجيريا.
"حتمية الانقلاب"
وصفت النيجر في تقرير لوكالة الخارجية الأمريكية العام الماضي بأنها أساس للاستقرار في منطقة الساحل، وشريك للولايات المتحدة الأكثر انفتاحا ونشاطا، وتحدث التقرير عن تعاون البلدين في محاربة الحركات الإرهابية، وفي تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في منطقة غير مستقرة إلى حد كبير.
ورغم ذلك، فقد جليا لكل متابع أو مهتم، أن هذا الاستقرار هش جدا، وبلا أساس، وأن النيجر لا تختلف كثيرا عن جيرانها سواء البلدان التي عرفت انقلابات عسكرية، أو تلك التي غرقت في فوضى أمنية، وكذا التي تعيش على حافتها.
فـ"ديمقراطية" بلدان العالم الثالث بشكل عام، وبلدان غرب إفريقيا بشكل خاص، مصنوعة على المقاس، ومحددة المجالات بدقة، ومحصورة في كرنفاليات انتخابية، تبدأ مع الحملات، وتنتهي باختيار من تريده الطبقة المتحكمة، وبالتالي، فليس لها أي انعكاس إيجابي على أوضاع الساكنة، ولم تساهم – رغم عقودها المتعددة - في تحقيق العدالة والمساواة، أو في توزيع عادل للثروة، أو في وقف غول الفساد الذي يلتهم كل شيء.
هذا الواقع أوجد حالة إحباط شعبي واسعة من الديمقراطية، تنتشر بقوة لدى شعوب منطقة غرب إفريقيا، وخصوصا في صفوف الشباب، وقد انعكس هذا الإحباط في احتجاجات كانت شرارتها انتخابات لم توفر الحد الأدنى من الطموح الشعبي، فيما انعكس مقاطعة للعملية الانتخابية في بلدان أخرى.
والحقيقة، أن هذه "الردة عن الديمقراطية"، تتجاوز شعوب المنطقة إلى الأنظمة الغربية التي كانت تروج نفسها راعية للديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث انكشفت على حقيقتها في أكثر من ساحة، وظهر أنما يهمها هو مصالحها، وأنها غير مهتمة ولا ساعية في "تصدير فضائلها".
وهناك عوامل أخرى تنتظم كل بلدان المنطقة، وإن بتفاوت، وهي التي أدت للانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري، قبل أن تلتحق بهم النيجر، وقد حاولت تتبع بعض هذه العوامل عقب الانقلاب الذي أطاح بالرئيس البوركينابي السابق روك مارك كريستيان كابوري، وهي – باختصار – الفشل التنموي، والانهيار الأمني، وتراجع مصداقية "النموذج الديمقراطي"، و"ضبابية الأفق السياسي"، وتصاعد الصراع الدولي على المنطقة.
كان جليا أن الرئيس محمد بازوما – والذي انتخب رئيسا للبلاد 2021 – لن يكمل مأموريته، فقد وصلته رسالة مبكرة في هذا المضمار، حيث تعرض لمحاولة انقلابية قبل تنصيبه، كما أنه خسر في عاصمة بلاده في الشوط الثاني من الانتخابات التي أعلن في أعقابها رئيسا للبلاد، أما وقد اجتاحت عاصفة الانقلابات المنطقة، فإن استمراره في منصبه يشبه المستحيل، خصوصا وأنه لعب على أكثر من حبل في لعبة الصراع الدولي على المنطقة.
"ضربة استباقية"
يمكن فهم الموقف الأمريكي الداعم للانقلاب، أو المجاري له، في ضوء تهاوي النفوذ الفرنسي في المنطقة، وحجم التنافس على "إرث" الإمبراطورية المريضة، وخصوصا بعض تجربة وسط إفريقيا، ومالي، وبوركينا فاسو، حيث دخلت هذه البلدان بقوة ضمن مجال "النفوذ الروسي"، وباتت تشكل خطرا على الأجندات الغربية في المنطقة.
فهل استشعر الأمريكيين – أخيرا – حجم المخاطر التي تتهدد نظام بازوم، ومستوى تراخي القبضة الفرنسية، فاستبقوا الأحداث بـ"تنسيق" يضمن تغييرا متحكم فيه كليا أو جزئيا، تفاديا لتغيير فجائي، قد يدفع بالانقلابيين بشكل مباشر إلى الروس، أو يدخل البلاد في دوامة عنف تزيد من مستوى عدم استقرار.
واقع المنطقة المتأزم، ونقاط التوتر المتكاثرة فيها، ومستوى الحضور المتزايد للروس، ومستوى النقمة الشعبية على الفرنسيين في المنطقة، قد يكون دفع بالأمريكيين لأخذ مساحة من الفرنسيين، وأخذ زمام المبادرة لتفادي خروج المزيد من الدول إلى الحلف المعادي للأجندات الغربية في المنطقة.
فهل تكون النيجر مفتاح "الانقلابات" المدعومة أمريكيا في المنطقة.
أحمد محمد المصطفى