في سيَر الوزراء
يبدي الكثير منا في موريتانيا رغبة في التعرف على حقيقة من يشغلون المناصب العليا في الدولة ــ مستوياتهم التعليمية وسيًرهم الذاتية وما تنطوي عليه من خبرات ومعارف ومهارات وتجارب ــ وهل يمتلكون حقا تلك القدرات التي لا بد وأن يتحلى بها رجال الدولة في عصر يلعب فيه الرأي العام دورا أساسيا في تأكيد شرعية نظام الحكم، سواء كان ديمقراطيا أو غير ديمقراطي، ويخضع كل من توكل إليه تلك المهام للمتابعة المستمرة من جانب الإعلام، ويخضع كذلك للحكم على نشاطه عبر قنوات التواصل الاجتماعي المختلفة.
والذي يدعو لطرح هذه القضية بالذات هو ملاحظة كيفية مخاطبة كبار المسؤولين في الدول الأخرى للرأي العام في بلادهم، حيث نشاهد على شاشات التلفزيون مؤتمرات صحفية وتصريحات لوزراء ومسؤولين ــ ليسوا من بلادنا طبعا ــ ويتملكنا العجب عندما نقارنهم بكبار المسؤولين عندنا، فالمسؤولون الأجانب أيا كان اتفاقنا أو اختلافنا مع ما يطرحونه من قضايا، يملكون قدرة قل نظيرها على طرح مواقفهم وصياغة حججهم على نحو مقنع للغاية، وكلهم يتحدثون لغة بلادهم بأسلوب بليغ يثير الإعجاب ويبعث على الاحترام.
بينما لا نكاد نجد مسؤولا واحدا عندنا يجيد الحديث باللغة العربية، أو يعرض لما يفعل في حكومته أو وزارته على نحو يحترم عقل من يشاهده أو يسمعه، لكونهم يدركون أن من يناقشهم من الإعلاميين يتقبل - مبدئيا - ما يقولون بل ويصدقهم، ولا يقيمون للمشاهدين أو المستمعين وزنا يذكر، فتجدهم يكررون في خطاباتهم المكتوبة عبارات ممجوجة تثير الشفقة وتخالهم أمضوا عصورا طويلة وأفنوا أعمارهم في التمرن على حفظها لسلاسة نطقها وحدها فقط من خطاباتهم تلك، وقد ورثَها السلف للخلف حتى ضاق الناس بسماعها وأصبحت حديثا ساخرا للعامة والخاصة، وقد أصدر الوزير الأول الحالي تعميمه رقم: 001275 في يوم الأربعاء 23 سبتمبر 2020 والذي يقضي بحذف بعض تلك العبارات من الخطابات الرسمية للمسؤولين مثل "تنفيذا لتوجيهات فخامة رئيس الجمهورية" و "بتوجيهات من فخامة رئيس الجمهورية" وكذا "بتعليمات من الوزير الأول المهندس أو الدكتور" وفق ما جاء في التعميم، إلا أن هذا التعميم رغم نشره لم يتم تطبيقه وتم تجاهله.
إذاً، فما هو السبب في هذا البون الشاسع بين نوعية خطاب مسؤولينا، ونوعية خطاب المسؤولين في الدول ذات الديمقراطيات المستقرة؟ وإلى متى سنظل مكاننا دون إحراز تطور في الخطاب ودون تقدم في الإنجاز؟
يكمن الفارق في رأيي في الدور الذي تلعبه خمس مؤسسات أساسية هي التي تعتمد عليها تلك الدول في صقل مهارات مسؤوليها، بينما لا تؤدى هذه المؤسسات دورها المأمول لدينا في موريتانيا بسبب أوضاعنا السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وهذه المؤسسات هي:
1. المؤسسات التعليمية لديهم تلعب الدور الأبرز لكون هذه المهارات لا تقتصر على القادة الكبار، بل هي موجودة لدى الكثيرين ممن يتولون وظائف قيادية في أجهزة الإدارة والشركات والجامعات والمدارس ومؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية، لكون النظام التعليمي في تلك الدول يقوم أولا بوظيفته في إكساب من يتعلمون المهارات الأساسية في اللغة والتعبير، كما أنه يقوم على حث الفكر وإعمال العقل، أما عندنا فقد غابت المؤسسات التعليمية الرسمية أو غيبت وتخلت عن دورها السامي بعد أن أوكل النشأ لمقدمي خدمات.. وانتشرت المدارس الخصوصية بمسمياتها وألوانها المختلفة وتوزعت في كل ركن وزاوية من البلد متخذة دكاكين التجزئة والصيدليات نموذجا في انتشارها.
2. امتلاك بعض تلك الدول مؤسسات خاصة لإعداد القادة نجد منها مثلا المدارس العليا في فرنسا، وخصوصا المدرسة القومية للإدارة والتي تلقن الدارسين فيها مبادئ الحكم والإدارة والاقتصاد، مع وجود كليات الحقوق التي تتضمن مقرراتها التعليمية التدريب على الخطابة، وهو تدريب أساسي وضروري.
3. حضور المؤسسة الحزبية في تلك الدول بقوة يحول دون وصول أي مسؤول إلى مكانة قائد الحزب إلا باتباع أسلوب الإقناع لاجتذاب أعضاء الحزب لآرائه وأنه الأقدر على قيادة الحزب إلى الانتصار في الانتخابات، لكون مؤسسة الحزب هي التي يتدرب فيها هؤلاء المسؤولين على فن القيادة من خلال إقناع أنصارهم وخصومهم على حد السواء.
4. البرلمان: لا يكفي أن يقنع هؤلاء القادة أعضاء حزبهم فقط بل لا بد لهم من أن يتصدوا للمعارضة في البرلمان، وأن يستخدموا البرلمان في إقناع المواطنين بسلامة سياساتهم.
5. الرأي العام المستنير الذى يراقب أداء الحكومة والمجالس النيابية، فبالرغم من كوننا في موريتانيا نتقاسم مع تلك البلدان وجود آراء عامة تستجيب للعزف على أوتار الوطنية والعنصرية وغيرها، الا أن غالبية الرأي العام عندهم يحكم على أداء الحكومات بحسب درجة خدمتها لمصالح المواطنين والوطن خلافا لما هو عندنا في موريتانيا حيث تسود الأنماط المتجذرة والمتخلفة والتي يتساوى فيها العامة والخاصة من الناس كالمحسوبية والمصلحة الشخصية والرشوة وغيرها، إذ لا بد للحكام في تلك الدول أن يكسبوا الرأي العام إلى جانبهم بالحجة المقنعة، وإلا فسيدفعون الثمن عندما تحين لحظة الامتحان أمام صناديق الاقتراع.
إذاً، علينا في موريتانيا إدراك أنه ما لم تلعب تلك المؤسسات دورها كاملا فلن يكون للمسؤولين لدينا القدرة على الإقناع ولا الحديث بلغة عربية سليمة ناهيك عن الحديث بلغات أجنبية رصينة مع زوارهم من الدول ومع مراسلي الصحف وقنوات التلفزيون الأجنبية، ولن يتحقق من ورائهم أي إنجاز ملموس يساهم في تطوير حقيقي لهذه الرقعة من العالم، وإذا كان هذا هو حال وواقع من يتولون المسؤوليات في بلادنا فهل كان سيذكرهم - في زمانه - الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي المتوفى سنة 748 هـ الموافق 1374 م في كتابه "سير أعلام النبلاء"؟ حيث كان يعتمد ــ في ترجماته للعلماء والفلاسفة والحكام والوزراء والسياسيين والقادة وغيرهم ــ على الفائدة المرجوة من صاحب الترجمة، خصوصا أنه لم يكتب عن الحجاج بن يوسف الثقفي صفحة كاملة في حين كتب عن الامام أحمد بن حنبل أكثر من مائة صفحة، نظرا لكون سيرة أحمد بن حنبل فيها من النفائس والنوادر ما ينفع ويستفاد منه.
وإلى أن يضمنا لقاء جديد أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه وأصلي وأسلم على أشرف الخلق ومن بعث رحمة للعالمين محمد صلى الله عليه وسلم.
الدكتور / الحسن أحمد طالب - أستاذ جامعي