ورحل المفكر الزاهد../ محمد فال ولد سيدي ميله
لأنه كان "آخر عصفور يخرج من غرناطة"، ما فتئ يكرر، باشتراكية ملائكية وبشاعرية نزارية:
"إني لأعلن أن ما في الأرض من عنبٍ وتينْ،
حقٌ لكل المعدَمين،
وبأن كل الشعر.. كل النثر..
كلَّ الكُحْلِ في العينيْن..
كلَّ اللؤلؤ المخبوء في النهديْن..
حقٌ لكل الحالمين".
لقد غيّبه الموت قبل أن ينهي رحلة البحث عن الحقيقة، وقبل أن يكمل مشوار النضال من أجل حقوق الأعراق والألوان والأقليات. إنه فتى الفكر المستنير، المناضل المنزوي، عاشق الحرية، الزاهد الزمزمي، أحمد ولد سيدي محمد ولد تتا.
لقد اختار فقيدُ المتأوهين والحزانى حياةَ التقشف، جاعلا من الزهد فلسفة، ومن الذوبان في آهات الآخرين نمط عيش وقانون مرور.
اختارته حركة "ضمير ومقاومة"، رئيسا لها، بعد أن أبلى، سنوات وسنوات، في النضال السري العصيب ضد نظام ولد الطائع، ثم عمل في مفوضية غوث اللاجئين حيث وجد ضالته وهوايته في الاحتكاك الدائم بالفقراء والمكبوتين.
طار في صباه إلى الاتحاد السوفييتي، فأخذ من لبروليتاريا نصيبه من الفكر التعاوني، وحتمية توزيع الثروة بما أمكن من العدالة، لكن تربيته الدينية، في مجتمع عالم ومحافظ، كانت بمثابة المِكبَح الذي فرض عليه أسلمة قيّمه الفكرية والسياسية. فظل، بين رفاقه، الثوري-المسلم، والاشتراكي-الفقيه، والنبيلَ المتيّم بالمنبوذين، وابنَ "الخيمة الكبيرة" الداعي لتحقيق المساواة.
كان الفقيد أحمد من طينة المفكرين الصامتين: يكره الظهور، ويمقت التلفاز، ويبغض المهرجانات، ويفر من المقابلات فرارنا من الجذام.
منذ عقود، لم ألتق به إلا واقفيْن. لم نلتئم في أي اجتماع، ولا في أية مناسبة.. كنت ألتقيه في شارع، ندردش، واقفيْن، ثم أودعه، لنلتقي، صدفة، وبعد سنوات، على رصيف أو في طريق جانبي. نعود، معًا، واقفيْن، إلى النقاش، ثم أنصرف وقد عبّأتُ مخيلتي بأفكار وتحاليل أحمدية لا شيء يضاهيها في العمق والدلالة.
التقينا عبر الهاتف، قبل شهرين، حين كان يتعالج في تونس. وبنبرته المتئدة الحصيفة، قدم لي كل التعازي عن أختي وأخته عائشة أم المؤمنين (لعليات)، أسكنها الله في فردوسه الأعلى، فانتهزَ الفرصة ليحدثني عن أسلافنا المشتركين، وعن علاقات آبائنا وأمهاتنا الضاربة في القدم. كان سيلا جارفا من التاريخ المَحَلِّي المزيّن بأغصان وارفة من شجرات الأنساب الدقيقة.
وقبل أشهر قليلة، التقيته خارجا من أحد المصارف، فبادرنا، كعادتنا، لتجاذب أطراف الحديث، واقفيْن كما هو دأبنا. كان أحمد هو نفسه، لا شيء فيه تغير: ابتسامات لا تنتهي، فكر ثاقب، حالم، مُصِرٌّ على أن مستقبل حل كل مشاكلنا رهين بحل معضل التفاهم العرقي، وحل مشكل الانسجام بين مكونات الأمة، ووضع آليات صلبة للتحول الديمقراطي، القائم على الحرية والعدالة والمساواة والإنصاف والتسامح.
في كل لقاء لي معه، أميط عن صفحة جديدة من موسوعيته الفائقة. فوراء جلبابه يختفي مثقف فريد بكل المقاييس، فإذا حدّث عن الفلسفة أفاض، وإذا تناول التاريخ أفحم، وإذا سبح في علم الاجتماع أمتع، وهو في تحليل الساحة مبدع في العلوم السياسية، وقليل، قليل من يماثله في فهم المتون والتمسك، قناعة وممارسة، بالفكر الإسلامي السمح المعتدل.
ومع شيء من الاشتراكية غير المغالية، وشيء من المحافظة الدينية الوسطية، وشيء من النبل الاجتماعي دونما تكبر، كان الفقيد داعية إلى التحرر والحرية، واقفا، قولا وفعلا، ضد الدكتاتورية والتعسف. إنه نصيبه المتبقي من الليبرالية الناعمة. كان يقول مع دنيس ديدرو: "لا أحد مَنَحَتْهُ الطبيعةُ الحقَّ في قيادة الآخرين بغيًا. فالحرية هدية من السماء، وكل إنسان يملك حق التمتع بها فور اكتسابه حق التمتع بعقله". ومع ذلك لا يهمل أهمية القوة الرادعة لبناء الدول. لكنه يعتبر أنها تبقى مشروطة بالإجماع لأن "القوة المتأتية من توافق الشعوب تفترض، لزاما، شروطا تجعل استخدامها شرعيا، ومجديا للمجتمع، ومفيدا للجمهورية"، وفقا لما سطره فلاسفة عصر الأنوار.
اليوم، يغادرنا، سالكا طريق البعلاتيّه، ليقيم بين آباء وأجداد انتشائيين، كانوا مضرب المثل في الدين القويم، والخلق الرفيع، والكرم، والرفعة، والسؤدد، والسمو.. جادت على جدثه الطاهر سحائبُ الرحمة، وحفّته نِعَمُ العطف الإلهي، ووسّع الغافرُ مدخله، وأكرم نُزَله، ومتّعنا وذويه، في رُزئه، بجميل الصبر.. و"إنا لله وإنا إليه راجعون".