المؤتمر الصحفي الأسبوعي للحكومة الأخير... 6 ملاحظات و6 مقترحات
تابعت باهتمام المؤتمر الصحفي الأسبوعي للحكومة الأربعاء المنصرم، وإنني إذ أُثمن ما تم تقديمه من شرح كاف وواف لمسألة العائدات المنتظرة من الغاز، فإنني في نفس الوقت أتقدم بالملاحظات والمقترحات التالية:
(1)
خلال المؤتمرالصحفي تم ذكر التزام من الحكومة الموريتانية لمبادرة الشفافية في مجال الصناعة الاستخراجية يتعلق بالإفصاح عن الملاك الفعليين للشركات التي تعمل في القطاع، وكأن الشعب الموريتاني لا تعنيه الشفافية، ولا يستحق أن يعرف منهم الملاك أوالمستفيدين الفعليين من ثرواته، ومن المؤسف أن تكون زيادة الشفافية استجابة لمطالب خارجية وليست بدوافع شعبية داخلية؛ شأنها في ذلك شأن جل القضايا الوطنية الكبرى (حقوق الإنسان، ومحاربة الرق ومخلفاته، والديمقراطية بل وحتى السياسية التعليمية) تأتي حلولها دائما في صورة إكراهات خارجية أكثر مما هي تلبية للمطالب الداخلية، ومما يؤكد أن الشفافية في القطاع المستهدف بها الخارج وليس الشعب الموريتاني ردة الفعل أو الإجراء الدفاعي الذي قامت به الحكومة بعد اللغط الذي أثير حول دخول قطر للطاقة مجال الاستكشاف في موريتانيا، فالشفافية كما هو معروف تتطلب أن تكون الإفصاحات في أوانها، وموثوقة، ومفهومة، أي أن توفر الدولة بشكل استباقي المعلومات وليس أن تفصح عنها كردة فعل.
(2)
خلال المؤتمرالصحفي تم ذكر أن الذهب "امعرم في العالم" يعني كثير، وهذ المعلومة منافية للحقائق الجيولوجية والاقتصادية، حيث إن أحد أهم أسباب كون الذهب معدن نفيس الندرة، إذ تقدر بعض المصادر متوسط نسبة الذهب في القشرة الأرضية بحوالي 0.004 جزء في المليون (ppm)، أي حوالي 4 غرامات لكل ألف طن من الخامات الصخرية. فكرة الذهب "امعرم" خطأ إستراتيجي خطير خاصة في هذه الفترة التي تتهافت فيها البنوك المركزية العالمية على شراء الذهب وتكديسه بأسرع وتيرة منذ عام 1967 وفقا لبيانات مجلس الذهب العالمي، وذلك نتيجة للتحول الدراماتيكي الذي يشهده العالم، وما صحابه من تراجع كبير في الثقة العالمية في النظام المالي العالمي، والدولار الأمريكي. حالة عدم الاستقرار العالمية التي جعلت من الذهب ملاذا آمنا تشير جل التوقعات إلى استمرارها على مدار الخمس سنوات المقبلة، ومما يدعم عودة الذهب للأضواء بقوة ربط الروبل الروسي به، وقبل ذلك إعلان الصين عن سياسية شراء النفط باليوان المقوم بالذهب، وغير ذلك من الخطوات التي بدون شك سيكون لها ما بعدها، ولو كان الذهب "امعرم" لما قيل " He who holds the gold makes the rules " أي الرجل الذي يملك الذهب يصنع القواعد، ولما حافظ على قيمته منذ آلاف سنين، ومرتبط بالنظام المالي العالمي.
(3)
خلال المؤتمرالصحفي تم تضخيم العلاقة بين النمو والاستثمارالخارجي، ولي عنق الحقيقية. صحيح أن الاستثمار الأجنبي يعتبر مصدرا مهما للتمويل، وبديلا للقروض والهبات الخارجية، مما يساعد على رفع معدلات النمو الاقتصادي خاصة في الدول النامية. لكن للأسف هذا لا ينطبق على كل الاستثمارات، ولا على بلادنا أوعلى الأقل 7 مليار دولار التي تم الحديث عنها خلال المؤتر الصحفي، والتي تم ضخها في مشروع الغاز المشترك، حتى الآن لم تساهم مساهمة معتبرة في النمو، ولا حتى في خلق فرص عمل محلية رغم بلوغ نسبة إنجاز الأشغال حوالي 90%، ومستقبلا تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى مساهمة تقدر بحوالي 0.5% من إجمالي الناتج الداخلي الخام على الأقل خلال المرحلة الأولى التي اتخذ القرار النهائي للاستثمار فيها حتى الآن، وما شاهدناه من صمود وتحسن في الاقتصاد الموريتاني في ظل أزمة كورونا، والأزمات الأخرى كان نتيجة لطفرة أسعار الحديد والذهب، وهذا ما أكده تقريرمبادرة الشفافية في مجال الصناعات الاستخراجية في موريتانيا لسنتي 2020 - 2021 الصادر مطلع العام، وقبل ذلك أكده تقرير البنك الدولي الصادر يونيو 2021، وقبلهم وبالتحديد يوليو 2020 قادت بحوثنا المتواضعة إلى توقعات بأن حديد والذهب قد يعوضان موريتانيا خسائرها الناجمة عن كورونا، وهو ما نشرناه على الصحفة المتواضعة وعلى مواقع محلية، ومهما يكن من أمر فإن معدل النمو لا يأخذ في عين الاعتبارهدر الموارد التي ساهمت في تشكله، ولا تلوث البيئة، ولا حتى التوزيع العادل للثروة، و أعتقد أنه كان من الأفضل ذكر الادخار الصافي المعدل (adjusted net saving rate) أو مؤشر حوكمة الموارد الطبيعية أو هما معا مع النمو حتى تتضح الصورة.
(4)
خلال المؤتمرالصحفي تم كيل المديح للرأسمالية المتوحشة في هذه الفترة بالذات التي تخوض فيها دول الموارد بدعم من دول المصنع حربا ضروسا من أجل تخفيف قيود الرأسمالية المتوحشة المفرطة التي تعيق بل تستنزف ثرواتنا، وعلى رأس تلك القيود (آلية التسعير، وعملة التسوية، وبنية الاقتصاد العالمي المبنية على الاستهلاك يقود الإنتاج)، فالعالم اليوم يشهد حركا كبيرا من أجل خلق منظمات تجمع الدول المصدرة لكل من الليثيوم، والحديد، والنحاس، وحاليا يدرس أكبر منتجي الليثيوم في أميركا اللاتينية فكرة إنشاء منظمة إقليمية متخصصة للخام النادر، على غرار منظمة أوبك الشهيرة بقطاع النفط العالمي، وذلك من أجل حماية المصالح وضمان استفادة قصوى للدول والشعوب المالكة للثروات، يعني ثورة ثانية بعد الثورة الأولى التي قادت إلى موجة التأميم ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ثروة تعيد التوازن إلى العلاقة المختلة بين دول المادة الخام و الدول الصناعية ، ونحن كبلد يعيش على ثرواته معنيين بهذه القضية أكثر، وقد يكون من الخطأ الاستراتيجي عدم الخروج من عقلية عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ومصطلحاته الاقتصادية، والسياسية، وطبيعة التعاون غير العادلة الناحمة عنه.
(5)
خلال المؤتمرالصحفي تم ذكر أن البرازيل تصدر 600 مليون طن من خام الحديد، وهذا الرقم بعيد جدا من الحقيقة على الأقل خلال 20 سنة الأخيرة أكبر كمية سنوية صدرتها البرازيل حوالي 390 مليون طن سنة 2018، أما السنوات الأخيرة فقد نزلت هذه الكمية إلى حدود 350 مليون طن سنويا.
(6)
خلال المؤتمرالصحفي تمت الإشارة مباشرة إلى أن الصين اتبعت سياسة الانفتاح 1975، والحقيقية هذه السنة الصين لا تزال تحت تأثيرالثورة الثقافية (1966 -1976) بل حتى مهندس الانفتاح الرئيس دينغ شياو بينغ حينها ليس هو رئيس والله أعلم بحاله أثناء الثورة. الصين بدأت تطبق سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978. كما تم عزو تطور الصين وتقدمها إلى الاستثمار الخارجي وهذه المعلومة أيضا غير دقيقة. صحيح أن الاستثمار له دور لكن ليس هو العامل الحاسم، ولو كان الاستثمار الخارجي عصى سحرية يطور البلدان لكانت الأرجنتين، ومصر، والسعودية وغيرهم الآن أكثر تطورا من الصين. هذا من جهة، ومنجهة تم ذكر أن الصين اليوم تكاد تقود العالم، فلو كان الاستثمار الخارجي هو السبب في ذلك لكانت اليابان أو كوريا الجنوبية أو حتى ألمانيا هي من يقال عنها تكاد تقود العالم وليست الصين، وأعتقد أنه يحق لنا أن نتساءل من هو المستثمر الغبي الذي يطور بلدا آخر لكي يحل محل بلده. البلدان لا تتطور إلا بسواعد أبنائها وعقولهم وإرادتهم الجماعية القوية.
ومن أجل أن يكون النقد نقدًا بناءً نقدم المقترحات التالية:
أولا: إدارة ملف الغاز والمعادن تحتاج إلى المزيد من الشفافية والحوكمة من أجل تأمين وتعظيم استفادة الدولة والشعب، فكما يقال لا توجد دولة غنية بالمطلق، ولا أخرى فقيرة بالمطلق بل توجد إدارة جيدة وأخرى سيئة تحول الثروات من النعمة إلى نقمة. ومن أجل تفادي تحول النعمة إلى نقمة لا بد من تبني استراتيجية وطنية شاملة، وسن إطارقانوني واضح، وبناء مؤسسات متخصصة.
ثانيا: نحن بحاجة إلى العمل على تعزيز دور البرلمان، الذي يملك تفويض شعبي وسلطة دستورية في ممارسة الرقابة، وكذلك تفعيل دورالمجتمع المدني المنظم والمتطور القادر على كشف مكامن الخلل، بالإضافة إلى خلق رأي عام وطني مستنير قادر على المطالبة بالحكم الرشيد وتحقيق الشفافية، وبناء أهم حلقة مفقودة، ألا وهي ندرة الدراسات والبحوث التحليلية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في المجال.
ثالثا: يمكن لحكومتنا أن تجعل البلد أكثر جاذبية للمستثمرين من خلال تحسين مجالات الحكم (الديمقراطية، دولة القانون، محاربة الفساد، القضاء على البيروقراطية الخ) بدلا من خفض الضرائب، وتقديم التنازلات أو الدخول في الاستثمار عن طريق استخدام حقوق ملكية الدولة أو حصتها لزيادة العائدات خاصة في هذه الفترة التي العالم فيها على أبواب انتقال طاقوي، وانتقال من عالم القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب. صحيح أنه قد لا نستطيع التحكم في معظم العوامل والمخاطر المالية، والأسعار في سوق لا ترحم لكن يمكننا التحكم في الحوكمة والشفافية.
رابعا: نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة التفكير في شروط استغلال الذهب، وكذلك المعادن الاستراتيجية، وخاصة معادن التحول الطاقوي (الكروم، الكوبالت، الليثيوم، المغنيسيوم، السيليكون، التيتانيوم إلخ).
خامسا: نحن بحاجة إلى إدارة جيدة للعائدات، وتحويلها إلى أصول مستدامة عن طريق بناء قدرة جيدة في مجال الاستثمار الداخلي، مما يسمح بتحقيق أفضل النتائج لتطوير ثرواتنا المتجددة، وبنيتنا التحتية مع العدالة بين الأجيال الحالية والمستقبلية،والتخلص نهائيا من أكبر المخاوف المتعلقة بتسيير ثروة الغاز، ألا وهي زيادة هيمنة النخبة، التي باتت تعيش نتيجة لنفوذها ولوحدها نعمة الثروة، بينما يعيش بقية الشعب 99% من الساكنة نقمتها، والأخطر من ذلك أن تأثير احتكار النخبة الحاكمة لريع الثروة الاستخراجية يمتد ليشكل أكبرعائق أمام التطور المجتمعي، والتحول الديمقراطي، وتحقيق التنمية الشاملة، مما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض الاستقرار الاقتصادي، وإذكاء الصراعات، وربما أضرار بيئية كارثية، أي بكل اختصار "لعنة الموارد".
سادسا: العمل على تقاسم العائدات أي مشاركة العائدات الاستخراجية مع السلطات المحلية ممثلة في البلديات، والمجالس الجهوية، وذلك بناء على مؤشرات تنموية واضحة بغية القضاء على التفاوت التنموي المناطقي، والرفع من جودة الخدمات في مناطق الاستغلال، وكذلك تعويضهم عن الأضرار الاجتماعية والبيئية لاستغلال، بالإضافة إلى توفير تمويلات إضافية لميزانيات البلديات الأفقر على المستوى الوطني، وقد يكون من المهم إنشاء صندوق الرفاه المشترك لتحقيق هذه الأهداف مجتمعة.
د. يربان الحسين الخراشي