الزراعة : كيف ننجح في زراعة الخضروات؟

الكثير منا شاهد اوعاش على وقع زراعة الخضروات تحت واحات النخيل، حيث كانت ولاتزال تجربة ناجحة. لكن هذه الزراعة تحتاج مضاعفة الدعم والتعميم. كذلك نجاح المبادرات الخصوصية التي اثمرت هنا وهناك رغم الجهود المحدودة لأصحابها. والزائر لهذه المزارع تتضح له سهولة زراعة الخضروات وماتتطلبه من وسائل بسيطة.

 

وليس هناك مثال أوضح من مشاريع صغيرة لزراعة البصل وبعض الخضروات بمبادرات شبابية او زراعة البطاطس التي طورها بعض الخصوصيين في سنوات قليلة بعد اول تجربة منذ ست أو سبع سنوات. فرغم ان البطاطس تكاد تنبت لوحدها أثناء حفظها داخل خنشتها في المطبخ (يمكنكم تفحصها داخل الخنشة لمشاهدة بعض الجذور تخرج منها) وقد أعطت زراعتها تحت الواحات نتائج قيمة، رغم كل ذلك، ظل هذا النوع من الزراعة مغيبا وكأن مزارعنا لا يستطيع الصبر ثلاثة أشهر حتى يحصد أزيد من ثلاثين طن من البطاطس في الهكتار.

 

البطاطس لا تحتاج إلى كثير من الماء، ويمكن لكل واحد حرث حوض صغير منها في ساحة المنزل. يكفيه ان يحصل على نوعية منها تصمد للحرارة وقد جربت في بلادنا نوعيات منها تتحمل العطش والحرارة المرتفعة حتى 40°.

 

كما يمكن ان ينتظر شهرنوفمبر أول فترة البرد لزراعتها لان تلك هي الفترة المثالية لنموها. يمكن أن يستعين بارشاد بعض محلات بيع البذور بخصوص التسميد والدواء الضروري، كما يمكن اخذ التربة من مكان تربية الماشية الغني بالسماد الطبيعي كسوق الغنم اوشراء التربة المستوردة. وستشكل هذه التجربة نموذجا حيا من زراعة ممتعة صحية، طازجة وذات طعم لذيذ. كما يمكن أن يزرع بعض الخضروات بكمية مصغرة حسب المساحة المتوفرة لديه.

 

اما زراعة الخضروات على نطاق واسع فلاتتطلب سوى الارادة الصادقة وتوزيع المهام والمسؤوليات حتى نذلل كل الصعاب ويتقن كل طرف عمله إلى أن نحقق اكتفاء ذاتيا، بل يمكننا تصديرها كما سبق عبر تجارب نجحت منذ عشرات السنين قام بها مستثمرون اجانب، غيرانها لم تدم طويلا نتيجة عراقل كثيرة بعضها مضايقات وعدم تسهيل عمل المستثمرين. لاتتطلب زراعة الخضروات أن نرفع السماء ولا خلق حبة واحدة، بل إقامة تعاون صادق بين الفاعلين لتجاوز كل العقبات والإقتباس من تجارب الآخرين. ومن ضمن ذلك، نستطرد النقاط التالية :

 

التكوين والتقنيات : تلك أول خطوة نحتاجها. لايمكن نجاح الزراعة إلا بمصادر بشرية فنية كافية مكونة محليا. من أجل ذلك يلزمنا إنشاء كلية للزراعة وعلومها بالإضافة إلى مؤسسات فرعية مختصة في مجالات الزراعة ومايتعلق بها. ولنأخذ العبرة من مجالات لم نتطور فيها إلا بعد قيام جامعات ومؤسسات للتكوين العالي بما في ذلك الطب والقضاء والإدارة إلخ. وعندما ننظر جنوبا نلاحظ عشرات الكليات والمعاهد العليا لدى جيراننا. وعندما ننظر شمالا نجد أن مؤسسات التكوين العالي تتجاوزأضعاف العشرات من جامعات ومعاهد ومدارس مهندسين.

 

فهناك أكثر من مائتي مؤسسة في المغرب العربي وأكثر من عشرين جامعة حكومية للزراعة في مصر مثلا. فكيف تم إنشاء مدرسة للمهندسين متعددة التخصصات (école Polytechnique) مثلا منذ سنين ولم يتم حتى الآن قيام مدرسة لتكوين للمهندسين الزراعيين والدراسات العليا لتقنيات الزراعة المتعلقة بها، أو فرعا على الأقل من مدرسة البوليتكنيك.

 

الطاقة الفلاحية : بدون طاقة فلاحية منخفضة لا يمكن للمزارع إنتاج خضروات بتكلفة في متناول المستهلك. لذا، يجب أن تعكف الحكومة والهيئات المهنية على طريقة دعم المحروقات للزراعة إما عند الشراء وإما عن طريق التعويض. على كل حال، لا يمكن تشغيل الحراثات والجرارات والحصادات وغيرها بتكلفة المازوت الحالية في حين ان السوق يعج بمنتجات زراعية مستوردة مدعومة. كما يجب أن تتوفر طاقة كهربائية فلاحية منخفضة التكاليف وليست على غرار كهربة قناة آفطوط الساحلي الزراعية في كرمسين التي زودت بخط كهربائي لكن ارتفاع التكلفة حال دون استخدام هذه الكهرباء في مختلف العمليات مثل الري والحفظ والتخزين إلخ. إن الطاقة الفلاحية لايمكن أن تكون بنفس اسعار الطاقة المنزلية اوالصناعية اوالتجارية. وقد تطرقنا إلى ذلك السنة الماضية حيث ذكرنا دعم الطاقة الريفية والمازوت للصيد وبعض الأمثلة الأخرى من باب احرى توفير الطاقة الفلاحية حتى ننتج مانستهلك ونرفع من سيادتنا.

 

المنظومة والمخطط التوجيهي : إن غياب إصلاح عقاري يظل عائقا مزهقا لكل الجهود. فلابد من قوة الدولة وعدلها وحكمتها كي نتوصل إلى نظام عقاري مضبوط خال من كل النزاعات.  فلماذا لم نستعن بالتقطيع الإداري ولم نستفد من تجربة الجيران. لابد من مقاربة لايحرم فيها السكان المحليون ولايسيطرفيها التجار وأصحاب النفوذ وتسمح لكل من عمروزيد أن يلجا للملكية العقارية النهائية عن طريق المنح والاستغلال. فما شاهدنا في مناطق كثيرة من كرمسين إلى لكصيبة قد تنفذ واستحوذ عليها رجال شداد غلاظ لبيعها دون استغلالها يشكل كارثة بل ربما يمثل نوعا من الإقطاعية والإستعباد. يجب أن تمنع المنظومة العقارية بيع الأرض الزراعية دون استغلالها عددا من السنين وحسب شروط معينة. من ناحية أخرى، لابد من تطوير مخطط توجيهي ظرفي زمانا ومكانا لكل شعبة زراعية على حدة يبين تقدمها وحجم الاستثمارات العمومية والخصوصية فيها والشراكات بين القطاعين العام والخاص والمحفزات وغيرذلك.  فبدون مخطط استراتيجي (plan stratégique) نستخرج منه مخطط توجيهي لعدة سنوات (plan directeur) يتم تبنيه وتنفيذه حتى نتقدم ونتطور بخطى منتظمة و معصرنة، وإلا سنظل في تخبط كمايقول المثل "دلوماء ودلو اتراب ".

 

التعاون الثنائي : يظل التعاون الثنائي أنجع وسيلة لترقية المعرفة واقتناء التقنيات على جميع المستويات. سواء على مستوى التجمعات القروية والهيآت المهنية والمجتمع المدني وسواء على مستوى الدوائر والمؤسسات الحكومية. فعلى سبيل المثال، يمكن ان نستفيد من اشقائنا وجيراننا في إنشاء مؤسسات جامعية للزراعة والتعاون الفني والمكننة تماما مثل فتح الطرق والجسور بيننا. إن هذ التعاون أولى به أن يراعي التوازن والمصالح الوطنية أكثر فأكثر.

 

المشاريع النموذجية : وزارة الزراعة والمؤسسات العاملة تحت وصايتها يجب أن تلعب دورا رياديا في إقامة مشاريع نموذجية يتمكن من خلالها كل مزارع من مسايرة ومواكبة مراحل زراعة الخضروات. فلماذا نجحنا في زراعة الخضروات تحت الواحات وتمكنا من مواكبة ودعم ومسايرة اصحابها ولم ننجح خارجها. تعطي المشاريع النموذجية الطرق الأمثل والأنسب لكل منتوج حسب كل منطقة ويتمكن أصحابها من تحديد كل عوامل النجاح بدقة والتغلب على المعوقات مثل أمراض التربة والآفات وغير ذلك.

 

تقطيع الأراضي : لابد من تقطيع تخصص بموجبه كل منطقة لزراعة المنتج الأكثر نجاحا في تلك التربة. فبذلك نرفع المردودية ونتجنب كثيرا من الأمراض والآفات. فعلى سبيل المثال، المنتجات التى تصلح على بحيرة بولنوار لابد أن تتحمل من الرياح مالا نجده جنوب روصو مثلا. وهكذا فإن منطقة أكثر ملوحة قد تكون أفضل لزراعة الشعير. كذلك فإن مستلزمات التغذية لكل نوع من الزراعة مختلفة وبالتالي وجود المكونات الغذائية والمواد المعدنية في التربة يؤهلها لنوع معين من الزراعة وحسب ذلك أيضا يعتمد في تسميد التربة وخدمتها.

 

دفاتر شروط : يمكن للحكومة إنشاء مؤسسة لإدارة أحد مواردنا الزراعية توفر دعما للمستثمرين صغارا وكبارا ضمن زراعة التربة حسب دفاتر شروط وتسويق عبر منظومة مهنية برعاية المؤسسة وتحكيم وتنظيم الحكومة على غرار مايجري في بعض الدول. كما أن منح الأراضي الزراعية يجب أن يتم عبر مسطرة محددة تضمن زراعة الأرض في فترة معينة وبالمعايير المحددة في المنح أو استرجاعها من طرف الجهات الإدارية.

 

شراكة القطاعين العام والخاص : مادامت الحكومة لم تنظم أي مناقصة اوفتح مشاريع لجلب القطاع الخاص وبناء شراكة من نوع (PPP) اوغيرها فإن الطريق سيظل ضيقا أومسدودا أمام المستثمرين. من ناحية أخرى، هناك الكثير من المناطق يمكن استصلاحها ومنحها لحملة الشهادات مثل مافعلنا لزراعة الأرز. ففي بولنوار مثلا اوبحيرة اترارزة التى تتجاوز مساحتها أكثر من 20000كم²، يمكن للحكومة أن تؤهل مساحات شاسعة لكل الراغبين في زراعة الخضروات بشروط معينة مع توفير الري والمدخلات. فيمكن للحكومة إنشاء مؤسسة خاصة بهذه المهمة على بحيرة بولنوار أواترارزة مثلا كي تقوم هذه المؤسسة بتأهيل الأرض ومنحها بشروط. قد تكون خدمات المؤسسة بعوض إذ لايتعارض ذلك تماما مثل ماقامت به شركة إسكان مؤخرا في الشامي وبنشاب إلخ. كما يمكن لمؤسسة من هذا النوع إدخال البيوت المحمية لزراعة الخضروات لأنها ترفع من المردودية وتقلل تكاليف الإنتاج. كل ذلك لايحتاج سوى قرار من السلطات العليا (مثل إنشاء مؤسسة اسكان) لان الموارد كلها متوفرة وتمويل مشروع كهذا بمليارين او ثلاثة (أوقية قديمة) يمكن ان يتم من ميزانية الدولة او اي ممول من شركائنا في التنمية.

 

الدعم الحكومي : دعم الحكومات للزراعة ممارسة عالمية وركيزة في السياسات التنموية لكل الدول. بل إن المنظومة الاربية، على سبيل المثال، توفر انواع الدعم بمافيه النقدي للمزارعين الاربيين في إطار سياستها الزراعية المشتركة (politique agricole commune - PAC) ومثلها كندا التي تعثراتفاقها مع أوروبا للتبادل التجاري طيلة سنوات نتيجة احتجاج الاربيين على الدعم السخي الذي توفره كندا لمزارعيها. وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية. وقد قدمت فرنسا في السنة الماضية 400 مليون يورو لدعم المزارعين على تجديد المعدات الزراعية حتى نسبة 40%. اما دول الجوار فمنهم من يدعم الزراعة حتى 80% في بعض الظروف كالمشاريع المجمعة. فمهما توجهنا شمالا اوجنوبا نجد الحكومات تجند دعما سخيا للمزارعين.

 

واسمحوالي أن استطرد مثالا هنا. فقد قال لي وزير دولة مجاورة منذ أزيد من عشرين سنة ان حكومته خصصت دعما كليا بمافي ذلك التكفل المعيشي لكل مزارع في منطقة الضفة يرغب في التحول من زراعة الفستق إلى زراعة الخضروات لان لديهم فائضا مرتفعا من الفستق في حين لا يزال لديهم عجز في الخضروات. إن الدعم الحكومي ضرورة ولايكفي أن تقدم الحكومة بعض المحفزات لان ذلك لوكان كافيا لكنا الآن نصدر الخضروات منذ سنين. لكن دعم الدولة للزراعة وقوتها وصرامتها هي الكفيل الوحيد لتجاوز هذه الصعاب.

 

تلك بعض أساسيات نجاح الزراعة في بلدنا بالإضافة إلى ماسبق ذكره في المناسبات السابقة وماذكره بعض المختصين في المجال. ومهما طال الحديث فسيبقى الكثير والكثر لأن المجال لا تسعه حتى مكتبات جامعية.

 

إننا نمتلك كل شيء بمافي ذلك التمويل والقدرة على اقتناء التقنيات سريعا. فلنأخذ مثال شركة اسنيم التي استعانت بخبرة اجنبية حتى كونت عمالة وطنية ذات خيرة عالية. من جهة اخرى، يمكن للدولة أن توجه اسنيم إلى مجال الزراعة حتى تتعدد مجالاتها كماهو شأن كبريات المجموعات الصناعية في عالمنا اليوم. فلماذا تساهم اسنيم في السياحة والفندقة والأشغال العامة وغيرذلك عبر مؤسساتها الفرعية ولاتساهم في الزراعة اذاكانت حقا تشكل أولوية للحكومة وركيزة للاقتصاد الوطني وأمننا الغذائي.

 

رغم أن اسنيم يمكن أن تتدخل في كل مراحل السلسلة من الإنتاج إلى الاستهلاك مرورا بالحفظ والتخزين والتصنيع والكهربة إلخ وذلك عبر إنشاء مؤسسات فرعية او الدخول في شراكة مع القطاع الخاص برعاية الحكومة. خاصة ان شركة اسنيم تصرف سنويا أكثر من مليارأوقية قديمة على مناطق السكة الحديدية وسبق أن انفقت عشرات المليارات في مشاريع أخرى فكان أحرى بها أن تستثمر مبلغا زهيدا نسبيا مثل خمسة اوستة مليارات اوقية قديمة في مؤسسة زراعية تكون رائدة في البلاد وقدوة للفاعلين تنهض بقطاع مصيري لبلادنا، مثل إنشائها في الماضي لشركة الأشغال العامة والصيانة والنقلATTM  باستثمار حوالي ثلاثة مليارات أوقية قديمة منذ ثلاثة عقود. إن الحلول كثيرة ومتنوعة لكن القرار واحد ولاتملكه الا أعلى سلطة في البلد حيث بقدرتها أن تجند كل الطاقات لنجاح الزراعة في بلدنا وإلا فسنبقى تحت خط الفقر وستظل مواردنا مبعثرة في مهب الرياح. أم أننا ننتظر أن تمطر سماؤنا ذهبا أو يأتينا الآخرون ليرشدونا إلى مصالحنا وهم منافسون لنا ويطمحوا أن نظل مستهلكين لمنتوجاتهم لمايبذلون من فتح طرق حدودية وجسور. إننا نخسر المنافسة في كل يوم تطلع شمسه بازغة تزودنا بطاقة رخيصة لنستغل مياها كثيرة فوق أرضنا وتحتها في ري آلاف الكيلومترات حتى ننعم بأمن غذائي شامل وسيادة كاملة ومكانة مرموقة تتعزز ضمن تموقعنا لأننا سننتج فائضا زراعيا يكون موضع طمع للآخرين. فليتخذ القرار من بيده القرار لقوله تعالى (إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم) صدق الله العظيم. اللهم ارزق بلادنا من كل الثمرات وبارك لها في سعيها وعاقبتها.

 

المهندس محمد عبدالله اللهاه

lamoslamosla@gmail.com

 

4 April 2023