مصداقية الانتخابات أصبحت على المحك
الملاحِظ للمشهد السياسي المحلي سيدرك دون عناء أن العديد من الساسة والمتطفلين على السياسة قد دخلوا بالفعل في حمى التنافس الانتخابي والتهيئة المبكرة للحدث المرتقب من بابه الواسع حيث يشكل إحكام العمليات المتعلقة بالتسجيل على اللائحة الانتخابية للمناضلين والمناصرين أولى الخطوات العملية في طريق قد لا يبدو لا حبا بما فيه الكفاية لساسة متمرسين ذرعوا دروبه جيئة وذهابا هتافا حماسيا بعاش الزعيم في الصباح وبرحل - إلى غير رحمة الله - في المساء تزلفا لمتغلب جديد.
إذا كان هذا هو حال أغلب هؤلاء فكيف بحال مواطن غافل مستكين لا يزال يلدغ في كل موسم انتخابي من ذات الجحر أكثر من مرة!
فأين فطنة المؤمن وكياسته..
يخاتله على حين غفلة ساسة النظام متدسسين في مفاصل الدولة ومرافقها يلبسون لكل حالة لبوسها، وهم هم، فلا ينبغي أن تنخدع أيها المواطن بجلبة السيارات الفارهة وبسط الموائد الفاخرة وتشقيق الوعود المعسولة ولوك الشعارات الفارغة.. فإن هي إلا بضعة أشهر وينقشع غبار المعركة الانتخابية عن رابح وخاسر، فالرابحون دوما هم رجال النظام الشطار من فاعلين سياسيين وأصحاب نفوذ ورؤوس أموال سرعان مايعودون إلى الأبراج العاجية والعوالم المخملية خلف الأبواب المصودة، والخاسر دوما هو المواطن المسكين، فسرعان ما يعود هو الآخر أدراجه إلى واقعه البائس بعد طفرة الحملات الزائفة ليجد المعيشة وقد ازدادت غلاء والبطالة استشراء والجريمة تفشيا، والصحة والتعليم وأغلب الخدمات ترديا...
والسؤال الموضوعي الذي يطرح نفسه هنا هو ترى من المسؤول عن التردي الذي بات يتخبط فيه البلد الآن ومن الذي هيئ العوامل الموضوعية للأزمات التي بدأت نذرها تلوح في الأفق؟
هل هو النظام؟ أم هي المعارضة؟ أم هو المواطن نفسه؟ أم الثلاثة مجتمعين كل بحسب مسؤوليته؟
بدءا ليس من العدل أو الإنصاف توجيه المواطن باعتباره الضحية الأكبر،اللوم للحلقة الأضعف - المعارضة أو من يرفع يافطتها - لأنه ببساطة لم يمنحها ثقته الكاملة في أي استحقاق وليس له محاسبتها على ما يزعمه تقصيرا منها إلا بقدر ما منحها من تلك الثقة، فالغالبية العظمى من أولئك المواطنين اعتادت التصويت لحزب النظام وأغلبيته المتحالفة معه، ويمكن التأكد من ذلك بالرجوع لنتائج أقرب استحقاقات تشريعية وجهوية وبلدية (2018) كعينة دالة، حيث حصد النظام وأغلبيته ثلثي المقاعد التشريعية والبلدية وفاز في كل المجالس الجهوية، فيما لم تحرز أحزاب المعارضة مجتمعة أكثر من أربعين مقعدا نيابيا (حوالي: 25% من مقاعد البرلمان) دون أن تتمكن من الحصول على الثلث المعطل الذي كانت تطمح إليه بعدما خذلها المواطن نفسه، أما حزبها الرئيسي "تواصل" فلم يحرز أكثر من: 14 نائبا برلمانيا، وهو مايمثل أقل من: 9% من المقاعد النيابية التي جرى التنافس عليها، فيما فاز في ثماني بلديات فقط من أصل: 119 بلدية أجريت فيها الانتخابات، ولم يفز بقيادة أي مجلس جهوي بفعل العوامل ذاتها.
فإلى من يجب أن يتوجه اللوم إذن في تردي الأوضاع وسوء الحكامة وضعف التدبير واستشراء الفساد؟
إلى معارضة أرادت لها يد السلطة الضاربة أن تعيش على هامش العملية السياسية وتلعب الدور الوظيفي التقليدي لمعارضة "استيفاء الشكل الديمقراطي المطلوب وفق التنميط الغربي" في أفق ديمقراطي مسقوف، لا سبيل لاختراقه أو افتكاك عقدته المزمنة - التي نفث فيها العسكر فانسحر بها (المثقف العضوي) قبل العامي - إلا بالكثير من الجهد الدؤوب والتراكم الديمقراطي الذي لا يعرف أصحابه الكلل أو اليأس من إمكانية حدوث التغيير الإيجابي المنشود ولو بعد حين من الزمن كما هو حال أغلب أحزاب المعارضة الجادة.
أم نتوجه باللوم إلى منظومة حاكمة تتخادم من خلال توزيع الأدوار وتبادل المواقع والمراوحة بين السروج الوطيئة، تمسِك بالدولة من تلابيبها فتُقبل إليها منقادة طائعة بموظفيها ومصالحها ومصادر الثروة والقوة فيها، فترجي من شاءت ممن تعتبرهم محسوبين على المعارضة فلا يُمتًعون بالمناصب ولاتُرعى لهم حرمة، وتأوي إليها من تشاء من أصحاب الولاء والحظوة دون رقيب من هيئة تشريعية أو حسيب من قضاء، أحرى من سلطة ضمير!
نعم، إن وجود المعارضة خارج دائرة الحكم والتأثير المباشر في القرار السياسي قد لا يعفيها في نظرنا من تبعة المسؤولية الأخلاقية ولو جزئيا عن الوضع القائم فقد أضفت بمشاركتها في أغلب الاستحقاقات غطاء الشرعية السياسية على النظام الحاكم وسلمت ضمنيا أو رسميا بأغلب مخرجاتها اضطرارا لا اختيارا، أيضا وقد لا تبعدعنها مواقف الجماهير الشعبية الكبيرة التي منحت بتصويتها للنظام مشروعية دستورية وقانونية لكل ما يصدر عنه من قوانين وسياسات وتصرفات تجري مجرى الاعتراف لصدورها من جهة تحوز الشرعية التي تعززت بفعل تزكية الإرادة الشعبية..
وهل يعقل أن نعفي من التبعات النظام نفسه الذي لم ينهض باستحقاقات المسؤولية وفرط في مقتضيات المشروعية التي هي أشبه بالعقد السياسي بينه وبين الجماهير التي منحته ثقتها مقابل تمثيل مصالحها وحمايتها من تغول أجهزته وتخَوُّضها في الكثير من مقدراته دون مراعاة فسطاط العدل والمساواة بين الكافة على قاعدة المواطنة الجامعة للحقوق والواجبات بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى..
إن منطق الأفعال وقرائن الأحوال تؤشر - إن لم يتم تصحيح عَوار المسلسل الانتخابي وتدارك الخروقات الكبيرة للإتفاق السياسي - إلى أننا مقبلون على واحدة من أكبر عمليات التلاعب الانتخابي وتزييف إرادة الناخبين طيلة التاريخ السياسي للبلد، أدواتها الظاهرة دون الخفية المستترة:
- التوطين أو الترحيل الانتخابي للناخبين إلى مواطن جديدة لا تربطهم بها أية صلة إدارية طبيعية ولا يقطنون بها ولا تربطهم وإياها مصالح معروفة، اللهم إلا قلب الميزان الانتخابي لصالح أطراف محسوبة في الغالب على النظام نفسه من الناحية السياسية.
- الضغط على الموظفين في الدوائر الحكومية من قبل رؤسائهم للتسجيل في دوائر محددة لصالح حزب الإنصاف.
- التوظيف الفج للمال السياسي في شراء ذمم أصحاب الفاقة من المواطنين والتأثير على إرادتهم الحرة في الاختيار بسحب هوياتهم والتحكم بها.. وغيرها من خروقات جسيمة تفرغ العملية الانتخابية ذاتها من أي مضمون ديمقراطي حقيقي..
لتبقى الأبواب مفتوحة أمام مختلف خيارات الفعل النضالي السلمي، إذ لايصح في النهاية إلا الصحيح.
الأستاذ اكناته النقره