أي عدالة نريد أو نحلم بها؟
سؤال ضخم وكبير جدا وتتطلب الإجابة عنه الكثير من التحليل والتأويل والأخذ والرد والقول والقول المضاد.. إلا أن ذلك لا يمنع مواطنا بسيطا يكتوي في بعض الأحيان بنار قصور هذه العدالة، بنار بيروقراطيتها، بنار تدخل نافذين فيها، بنار عدم تمكنه من الولوج إليها، إما نتيجة لضعف الإمكانات المادية أو لعدم الثقة فيها من الأساس، ذلك أنه رأى بأم عينه جهارا نهارا الجناة وأكلة المال العام -حتى لا أقول المفسدين- يسيرون في الطرقات ويتبجحون مزهوين بما لهم من سلطة ونفوذ أو ربما بسبب رؤيته للص يدخل مفوضية الشرطة هذا الصباح ليخرج منها بكفالة أو بدونها يوم غد.
أي عدالة نريد لا بل نحلم بها والحلم مشروع؟
سيغوص المؤتمرون في هذه الأيام بحول الله في الإشكالات الفلسفية المشكلة للعدالة وفي جهازها المفاهيمي ليخرجوا بمسودات جذابة المظهر ساحرة للأعين أخاذة للقلوب، لكن متى ستصل إلى ذلك الذي لا يهتم للأسلوب الأدبي الرصين ولا للتعريف الدقيق للمفهوم الذي يقوم الكثير من الاعوجاجات ويصوب الصلاحيات التي ظل هذا المواطن مكتوف اليدين أمام تداخلها فلا هذا المسؤول يجرؤ على المساس بها ولا السلطة التقديرية تسمح أو في حال العكس لا مردودية لهبته من أجل نصرة هذا الشخص ففي العدالة لا بد من التجرد وبالتالي لا مكان للعواطف.
أي عدالة نريد لا بل نحلم بها والحلم مشروع؟
نريد عدالة تكرس الخوف والطمأنينة على حد السواء، فتوقع سطوتها وجبروتها وقسوتها وغلظتها على ذلك الجاني وعلى من تسول له نفسه التفكير في أبسط مخالفة للنصوص حتى وإن كان يجهلها، فمعاقبة بعض من يجهلون القانون -وهم للعلم غير معذورين في ذلك بنص الدستور- والتشهير بهم سوف يجعل آخرين يرتدعون أو يرعوون أو يترددون مرات ومرات عديدة قبل الإقدام على أي مخالفة، بينما نجد نفس العدالة الخشنة مع أولئك حانية وحنونة على أولئك الضعفاء حتى يستعيدوا وفقا لها حقوقهم وما لجأوا إليها من أجل استرداده أو الحصول عليه.
نريد عدالة تبعث على الطمأنينة لمن لجأ إليها وتتقبله بالأحضان وتحنو عليه وتلين له، إلى أن يأخذ حقه وما أراد مما كان بالنسبة له حلما قصي المنال. بهذه الطمأنينة يرتاح المطالب بالحق ولو كان قويا وينزعج منتزع الحق سواء كان قويا أو ضعيفا.
إن هذا الخوف من الجانب الخشن للعدالة هو ما نبحث عنه و هو الوحيد الذي بإمكانه تحصين مكتسباتنا الاجتماعية والتنموية والسياسية حتى، إضافة إلى مواردنا الاقتصادية وثرواتنا وثروات أجيالنا اللاحقة التي سيكون أمامها إما أن تفخر بنا كأسلاف أو أن تلعننا كأسوأ جيل تلى جيل التأسيس وحمل المشعل وهو ليس له بأهل ولا هو له بكفء، وسيلعنون أيضا وجودهم وما هم فيه من سوء حال سبب لهم مهانة مد اليد استجداء لأمم أخرى ربما ستذلهم لذات السبب وقد كان بإمكان سلف جشع (نحن) أن يقلل من جشعه ولو بنزر يسير حتى يترك ما يسد لهم خلة حقبة واحدة من الزمن.
نريد وبملء الفم عدالة بدون متدخلين من ذوي النفوذ، من ذوي السلطة والجاه والقوة والحظوة والمكانة، نريد من فخامة الرئيس أن يكرس -كما فعل في السابق- الفصل بين السلطات وبخاصة السلطة القضائية مع إلحاح شديد على معاقبة كل من يثبت تدخله فيها مهما تكن وأيا تكن تلك الصلات التي ارتكز عليها من أجل ذلك. بهذا وحده سنرتاح راحة كبرى وسنطمئن إلى أننا يمكن أن نقوم بمقاضاة أي كان لأن هنالك من سيصغي إلينا وسيتصرف حياله بما يناسب شرعا وقانونا وحينها ستقوم دولتنا العظيمة على العدل وتودع إلى غير رجعة عهودها السابقة.
وفقا لهذا وهذا وحده نريد ونطلب ونرجو ونلتمس ونلح في الطلب والسؤال ونستجدي ونكرر ونعيد الاستجداء من المؤتمرين ومن السلطات أن يصيغوا وفقا لهذه المبادئ -مجملة في خوف أحد طرفي العدالة حد الرعب من جانبها الخشن الكالح العبوس، والاطمئنان حد الأمان بالنسبة للطرف الآخر لما يلقاه منها- مسودة توصيات المؤتمر وبأي أسلوب أرادوا وأي تنميق أو زخرفة سكنت أو اطمأنت إليها نفوسهم.
بالنظر إلى تجربة الولايات المتحدة، نجد أن الأمية لا زالت موجودة وبكثرة في العديد من الولايات إلا أن الوجوه تكفهر وتتقطب بمجرد لفظ اسم العدالة والقانون، هذا ما نريده تماما وهو أمر يتطلب من بين أمور عديدة:
1- تحديد نقطة انطلاق بحيث أن ما سبقها سوف يعامل بمبدإ تسويات تناسب تلك المواقف، وما سيليها وفقا لمبادئ صارمة لا تقبل أي نوع من التسويات أيا تكن نتيجتها الحالية أو المستقبلية؛
2- إنشاء هيئة قضائية تنتخب لمدة معينة وتتمتع بالاستقلالية والحصانة، يعهد إليها بمراقبة السلطة القضائية وإبداء الرأي دون تدخل في مسارات التقاضي وما ترتب أو يترتب عنها وذلك بالتعاون مع المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة العليا وأي هيئة أخرى ذات صلة، ينتقى أصحابها على أساس الكفاءة العالية والنزاهة والتجربة الثرية في هذا المجال وذلك وفقا لبرنامج في غاية الصرامة يشرف عليه السيد الرئيس شخصيا. على أن تزود الجهات العليا بنتائج عملها بشكل دوري. فلا يمكن لمن يراقب هذا الجهاز أن يكون قابلا للتأثير، لذا فإن السهر على استقلاليته وحصانته أمر لا محيد عنه من أجل أداء متميز؛
3- وضع برنامج تدريب وتكوين هو الأقسى والأصعب بحيث يعمل على تخريج نخبة النخبة ولو بمعدل قاض واحد سنويا ورسوب 99 آخرين مع السماح لهم بالإعادة لعشرات المرات وذلك بدل الانتظار حتى تتم الدعوة للاكتتاب، ذلك انه بهذا الشكل سنحصل على جيل قضاة هو الأقوى والأجدر والأكفأ وبـه يمكن أن نعزز قطاع العدل ونحصنه تحصينا كاملا.
4- وضع أشخاص العدالة في ظروف جد مريحة لحمايتهم من أن يتعرضوا لأي تأثير ذي طابع مادي حتى يقوموا بهذه المهمة النبيلة؛
5- إعادة تأطير وتكوين أشخاص العدالة بشكل مستمر وجعلهم يستفيدون من تجارب أمم أخرى قطعت أشواطا في هذا الصدد؛
6- اعتبار ماضي أشخاص العدالة الحاليين غير قابل للإثارة بمقابل القضايا الجديدة درءا لأي مسعى للابتزاز وتحريف محتمل لمسار العدالة؛
7- إنشاء تحالفات أو توأمات أو بعبارة أدق فتح قنوات تعاون قضائي نشط مع دول كبرى وأخرى ذات باع طويل بهذا الخصوص، بهدف صقل التجارب والاستفادة مما خبر هؤلاء في ماضيهم وما عاشوا من تجارب؛
8- إعداد استيراتيجيات طموحة وبناءة لإعادة تأهيل ودمج المساجين في المجتمع وخلق ظروف تسمح لهم بمزاولة أنشطة مدرة للدخل بدل التفكير في مقارنة الوضع خارج السجن وداخله مما قد يجر البعض إلى ارتكاب مخالفات تفضي بهم إلى العودة إلى مكانهم السابق لا سمح الله.
9- تنقية وتكييف النصوص مع المتطلبات الجديدة، بدل أن تكون على مقاسات معينة محددة سلفا، ويتطلب ذلك أمورا من بينها أن يكون المسؤولون عن التشريع من ذوي الخبرة العالية بالقانون أو في الحد الأدنى ذوي خبرة كافية، وفي حال لم توجد تبرمج لهم دورات تكوينية بمقر البرلمان بهدف تأطيرهم وتهيئتهم لهذا الأمر؛
أي عدالة نريد لا بل نحلم بها والحلم مشروع؟
نحلم بعدالة لا تكرس مبدأ "عفا الله عما سلف" من أجل إعفاء أشخاص معينين من المساءلة القضائية، بل تلجأ إليه حينما يكون هنالك إجماع على أن تحريك الدعوى والمساءلة لا يجديان نفعا مقارنة بالعفو والصفح وطي صفحة الماضي.
نحلم بعدالة تكرس اسم الله جل وعلا "العدل" وتتبنى شعار عمر بن الخطاب، وسلوك علي بن أبي طالب حين قال للقاضي: كان أداؤك جيدا لو لم تخاطبني بأمير المؤمنين حيث كان يجب أن تخاطبني باسمي وتخاطب مخاصمي باسمه وقد أبليت حسنا على العموم،
نريد عدالة تشعرنا بالفخر ونسمع الكل فيها يردد العبارة الشهيرة "يحيا العدل" ويجوب الشوارع مرددا لها والسعادة والفرحة تغمرانه فيردد كل السامعين معه يحيا العدل ويحيا العدل.
الشيخ محمد المامي اسلام