الشيخ يوسف القرضاوي.. ميراث "الإصلاحية الإسلامية" ورحلة العمل الفقهي والنضالي
أُعلن -الإثنين- وفاة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي عن 96 عاما، الذي يعد أحد أبرز علماء الشريعة في العالم الإسلامي في العصر الحديث، واشتهر بتبنيه منهج مدرسة التيسير والوسطية القائمة على الجمع بين مُحْكَمات الشرع ومقتضيات العصر.
ميراث الإصلاحية الإسلامية
يوصف الشيخ الراحل يوسف القرضاوي بأنه وريث مدرسة الإصلاحية الإسلامية، وفي كتابه "يوسف القرضاوي فقيه الصحوة: سيرة فكرية تحليلية" كتب الأكاديمي والباحث في المنهجية والأخلاق معتز الخطيب أن الشيخ القرضاوي مثل نموذجا للدور التاريخي للعلماء الذين يجمعون النشاط النظري والعمل معا، "فهو لم يغادر الوعي التاريخي بدور العالم في الحياة والمجتمع، ففي حين انحسر الفقه عن الحياة العامة وتقلص دور العالم (الديني) في المجتمع بفعل عوامل عديدة، نجد القرضاوي يستصحب مرجعية الفقيه ودور المفكر المنشغل بقضايا الأمة، فنجده حاضرا في القضايا الكبرى، ومعبرا عن موقفه منها ومعبئا الجماهير لأجل ذلك".
وتابع الخطيب معتبرا هذا الدور المركب الجامع بين الفقه والفكر، والمستصحب للدور الشامل، "يعود إلى كونه استمرارا لميراث الإصلاحية، كما نجدها لدى المصريين كمحمد عبده، والتونسيين كخير الدين التونسي، الذي كان يرى أن أحد عوائق التقدم يتمثل في أن رجال الدين يعرفون الشريعة ولا علم لهم بأمور الدنيا، وأن رجال السياسة على العكس من ذلك، يعرفون الدنيا ولا يعلمون الدين".
وأردف "ومن هنا كانت رؤيته الإصلاحية المتعلقة بدور العلماء تتلخص في أن العلماء الهداة جديرون بالتبصر في سياسة أوطانهم واعتبار الخلل الواقع في أحوالها الداخلية والخارجية، وإعانة أرباب السياسة بترتيب تنظيمات منسوجة على منوال الشريعة، معتبرين فيها من المصالح أحقها، ومن المضار اللازمة أخفها"، حسب ما نقل الخطيب عن التونسي في كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك".
ويقول الخطيب إن الدور الذي قام به القرضاوي يتصل بهذه الأفكار والتصورات نفسها، ومع ذلك كله "لم يكن حرص القرضاوي على إنشاء مرجعية علمائية عالمية -تجسد بتأسيسه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سنة 2004- خارجا عن دائرة تحركاته وواقع تأثيره، فقد قابل موسوعيته العلمية بمكانة مرموقة لدى العلماء والشعوب الذين التقاهم، وهم لا يحصون، وعلى الخصوص انشغاله بمسلمي الغرب والشرق معا، سعيا لتجسيد الأمة الإسلامية التي يتحدث عنه باستمرار ويجتهد لأجل وحدتها".
مشروع القرضاوي
وشكلت كتب القرضاوي وآراؤه الفكرية وفتاواه الفقهية مرجعية موثوقة ومعينا ثرّيا لأبناء ما تعرف بالصحوة الإسلامية منذ ستينيات القرن العشرين، وصاغت ثقافة أجيال بأكملها من الطلبة خاصة، والباحثين والدارسين عامة.
وإلى جانب كتبه، شارك القرضاوي طوال عقود في إنشاء الكثير من الهيئات والمؤسسات الإسلامية في المجالات العلمية والدعوية والخيرية والاقتصادية والإعلامية.
وفي تناول "الخارطة الفكرية والإبداع المعرفي"، كتب الخطيب عن موسوعية القرضاوي الذي صنف كتبا مهمة في مجالات، أهمها التفسير وعلوم القرآن حيث كتب "من التفسير الموضوعي للقرآن" و"الصبر في القرآن" و"العقل والعلم في القرآن"، وفي السنة النبوية، كتب العديد من الكتب التخصصية متبنيا منهج فهم السنة النبوية على ضوء القرآن، وكتب "السنة مصدرا للمعرفة والحضارة" عن الجانب التشريعي في السنة والسنة كمصدر للمعرفة وكمصدر للحضارة.
وفي العقيدة، صنف الشيخ رسائل منها "وجود الله" و"حقيقة التوحيد" و"ظاهرة الغلو في التكفير" و"الإيمان بالقدر" وغيرها، معتبرا العلم بالعقيدة عامل وحدة للأمة، وليس سيفا مسلولا لتفريق كلمتها.
وفي مجال "تيسير الفقه"، كتب الشيخ سلسلة "تيسير الفقه للمسلم المعاصر في ضوء القرآن والسنة" محاولا تيسير الفهم من ناحية، وتيسير العمل والتطبيق من ناحية أخرى، حسب الخطيب.
وكتب القرضاوي كذلك في أصول الفقه، والتراث الفقهي وخصص كتابه "كيف نتعامل مع التراث والتمذهب والاختلاف"، مقرا بأن التراث من عمل العقل الإسلامي وليس له في ذاته عصمة ولا قداسة، وفي "الفقه السياسي" ناقش قضايا الورى والمصالح والمقاصد والموازنات وفقه الواقع والأولويات وفقه التغيير، وحدد في كتاب "الدين والسياسة" مفهومه عن الدولة ونظام الحكم والأقليات و"السياسة الشرعية" ومسائل الإمامة وغيرها.
وإلى جانب العمل العلمي والفكري والتأصيل المنهجي، كتب القرضاوي منظرا لتيار الصحوة الإسلامية، فكتب "حتمية الحل الإسلامي"، وخصص كتابه "الإسلام حضارة الغد" لنقد الحضارة الغربية، وكتب رسالة "عوامل السعة والمرونة في الشريعة" لبيان سعة الشريعة ومرونتها وقابليتها لاستيعاب التطور البشري، وفي رسائل ترشيد الصحوة، كتب القرضاوي "ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده" و"في فقه الأولويات" و"أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة" وأيضا "الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم" وكتاب "الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد".
وكتب القرضاوي في فقه السلوك والروحانيات، وله كتب بينها "الحياة الربانية والعلم" و"النية والإخلاص" و"التوكل" و"التوبة إلى الله"، وصنف في الاقتصاد الإسلامي كتابه الأهم "فقه الزكاة" معتبرا أن الهدف من الزكاة ليس إطعام الفقير لقيمات بل ضمان مستوى لائق من المعيشة ومعونة دائمة منتظمة، وانشغل بمجالات الفقر والزكاة والبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، وفي كتابه "مشكلة الفقر" اهتم برعاية حقوق الفقراء وصيانة كرامتهم للوصول لمجتمع "تمام الكفاية".
وفي أحد حلقات برنامج الشريعة والحياة، قال القرضاوي إن "السياسة تحولت إلى سفك للدماء وإلى إضمار للجريمة وإلى تدبير للشر.. هذه لا تصبح سياسة، هذه سياسة جهنمية والعياذ بالله، السياسية التي تعمل على أن تشبع الجائع، أن تشغل العاطل، أن تدرب العامل، أن ترتق الفتق"، مضيفا أن الإصلاح السياسي يبدأ من أسفل.
موسوعة لم تكتمل
وفي مقاله الرثائي بمدونات الجزيرة، كتب الأكاديمي والباحث في المقاصد الإسلامية وصفي عاشور أبو زيد، قائلا إن حياة القرضاوي كانت "مثالا للعالم العامل، والفقيه المجاهد، والأصولي الراسخ، والمفكر الرائد الذي ترك الدنيا وغادرها قبل أن يرى موسوعة أعماله الكاملة التي ستصدر قريبا في أكثر من 100 مجلد".
وأضاف أبو زيد "ترك الإمام القرضاوي بهذه المجلدات الكبيرة والضخمة تراثا تصلح به الأمة المسلمة، بل تصلح به الإنسانية، لما تميز به من تيسير في الفتوى، وتبشير في الدعوة، وسداد في الرأي، وحكمة في العمل، وصدق في الأدب نثره وشعره".
واستدرك "ومع هذا، فإن أعظم ما يميز الإمام القرضاوي ليس الفقه ولا الفتوى، وإن كان رائدا في هذا المجال ومجددا، ولكنه تميز بالجوانب الإنسانية والمشاعر الراقية التي كان يحفنا بها كلما رأيناه أو رآنا"، وتابع أبو زيد "عاش القرضاوي قرنا هجريا من الزمان (الثاني من ربيع الأول 1345هـ – 30 صفر 1444هـ)، زار فيها العالم، وكتب فيها في كل مجال من مجالات الإسلام: عقيدة وإيمانا، فقها وأصولا، دعوة وتزكية، فتوى واجتهادا. لم أنزل قرية أو بلدا في هذ العالم الواسع إلا وجدت له أثرا، ورأيت له طلابا، ورصدت له كتبا مترجمة للغات الدنيا، فانتفع به المسلمون: علماء ودعاة، وفقهاء ومفتين، ومسلمين وغير مسلمين".
المصدر : الجزيرة