إنتاج الدلالة ؛ قراءة أسلوبية فى نصوص موريتانية../ د.محمد ولد عابدين
إن فحص علاقة الدال بالمدلول فى الخطاب الشعري يكشف عن نزوع أصيل إلى التعبير الإيحائي ، إذ أن من خصائص الشعر الثابتة جنوحه إلى التعبير غير المباشر "فيقول شيئا ويعنى شيئا آخر " وفى ذلك تكمن قيمته ، فهي بتعبير محمد الهادي الطرابلسي "ليست فيما يقول ، وإنما فى ما لايقول " ونظرا لهذه الخاصية فقد يحيل المدلول الشعري إلى مدلولات خطابية مغايرة ، بشكل يمكن معه قراءة خطابات عديدة داخل القول الشعري ، مما يعنى فتح فضاء نصي متعدد حول المدلول يتم فيه العدول من الدلالة المطابقة أو المباشرة إلى الدلالة الإيحائية التى تمثل انتقالا بالعلامة من كونها عناقا بين الدال والمدلول ؛ إلى كونها دالا لمدلول ثان .
وقد كانت هذه الرؤية حاضرة فى البلاغة العربية عند عبد القاهر الجرجاني الذي كشف عن آليتين لإنتاج الدلالة هما " تأدية المعنى وتأدية معنى المعنى ؛ إذ تتحقق الإيحائية عبر الآلية الثانية التى تخلق ازدواج المدلول الشعري ، وتدخل الاستعارة والكناية وكل الصور البيانية فى الفضاء المحصور بهذه البنية الدلالية المزدوجة.
ونروم في هذه الإضاءة إجراء مقاربة دلالية لنصوص شعرية موريتانية ، بغية كشف البنى الأسلوبية واستنطاق كونها الشعري واستكناه دورها فى تشكيل وإنتاج الفاعلية الدلالية للنصوص ، سعيا إلى كشف الآليات المهيمنة في أساليب التصوير والتشكيل وأبرز التقنيات الموظفة فى البناء التركيبي و الدلالي ، حيث الكلمات في الشعر كائنات تتفاعل لتشكيل الدلالة وخلق الحصيلة المضمونية " فالشعر هو نشيد المدلول " ولتأكيد ماهيته وجوهر كينونته يسعى إلى خلق تصور إيحائي ينأى عن المباشرة التى تسلبه جماليته وفاعليته ، فهو لايتحقق إلا بفضل الخلق الجديد المثمر للغة ؛ عبر تحطيم النسق اللغوي وتكسير قواعده وتغيير ترتيبه المعتاد في الكلام ، مستمدا فاعليته التعبيرية من " مسافة الفجوة" التى يخلقها بين الدال والمدلول ، إنه يجنح دوما من خلال ديناميته لأن يؤكد وجود اللاوجود ، طبقا لهذا التعبيرالجميل الذي يقتنصه ولد الطالب فى قوله :
*أنت الذي بالشعر تعرف كيف يو ... لد مشرقا في اللاوجود وجود!...*
ولعل الشاعر محمد ولد عبدى من بين الشعراء الموريتانيين الذين ينزعون إلى التصوير الإيحائي ، مقتربا بذلك مما يسميه الدكتور صلاح فضل (الأسلوب الحيوي ) الذي يوسع المسافة بين الدال والمدلول نسبيا لتشمل بقية القيم الحيوية بكل طاقاتها التعبيرية الموظفة مع ارتكاز على حرارة التجربة المعيشة ، دون أن يؤدى ذلك لانجذاب إلى التصوير المباشر مما يفقد التجربة الشعرية قيمتها وجماليتها ، وإنما باعتماد على مستوى من الكثافة فى الصور الشعرية لايصل درجة التشتت والانبهام غير القابلين للتأويل.
وسنتأمل أسلوب ولد عبدى في إنتاج الدلالة من خلال هذا المقطع من نص(السنبلة) :
*حصاد أنا*
*نجمة تتخلق فى رحم المفردات*
*أتيت وصدقت رؤياي أنى تجليت*
*واندغم الزرع فى كلماتى*
*تكشفت*
*كاشفت كفي*
*قرأت ستطلع سنبلة من رماد الحقول* .
يضج هذا النص بعلاقات إسنادية استعارية تنزاح عن المألوف وتحقق الغرابة الشعرية ، فثمة (نجمة تتخلق فى رحم المفردات ) و (حقول من اللغات) و (زرع يندغم فى الكلمات) و (سنبلة تطلع من رماد الحقول ) ..بيد أن هذه الغرابة التى يخلقها التشكيل الاستعاري لاتفضى إلى درجة الانبهام الذي يحول دون التأويل ، فقد حرص النص على خلق علاقة تجانسية بين مكونات صوره التى جاءت منضوية تحت منظومة لغوية تحيل بعض مفرداتها من الناحية التداولية إلى(حصاد) حقيقي من خلال ورود ( الزرع، السنبلة، الحقول...) بيد أن السياق النصي يحدث فيه منبه أسلوبي يتمثل فى بروز عنصر غير متوقع :
*واندغم* *الزرع(...)*
*واندغم(...)* *فى كلماتى*
فيتعمق الوعي بأن ( الحصاد ) حصاد سياقي غادر دلالته الأولى وأضفى عليه السياق النصي دلالة جديدة تكثفها الاستعارات : (رحم المفردات - حقول اللغات...) كما يأتى السطر الأخير :
*ستطلع سنبلة من رماد الحقول*
ليمنح النص دفقة دلالية جديدة تعمق الوعي بالبعد الكنائي والمدلول المجازي لهذه (السنبلة) المشحونة بدلالات إيحائية لايمكن الوقوف عليها إلا بسبر واستكناه العلاقات الخفية التى يستثمرها النص لهذه المفردة/ العنوان بوصفها علامة تبئير تعكس المنظور الخفي للنص ، وتبدو النزعة الصوفية جلية - لاتخطؤها العين - فى تجربة الشاعر ووجدانه ، فالتراث الإشراقي الصوفي له مساحة دلالية دامغة وكينونة معجمية مندغمة فى قاموس النص ولغته : ( الرؤيا - التجلى - الكشف - المكاشفة ... ) بماتحمله هذه المفردات من مدلولات إيحائية عميقة ، تخلق فضاء تسبح فيه الرؤى وتمتاح منه الصور .
إن الشاعر يتنبأ بحصاد ( سنبلة ستطلع ) وهي ليست سنبلة عادية ؛ لأنها تنبثق من (حقول اللغات ) وتتخلق فى(رحم المفردات ) ، وبذلك ينفتح النص على مدلولات جديدة تتجاوز الدلالة المباشرة لهذه (السنبلة ) فلو أن المقصود هو السنبلة المعهودة لفقد النص شعريته لدلالته المباشرة ، ولذا فإن تتابع الصيغ الاستعارية قد حد من نمو تيار المباشرة الذي يستشف من العنوان وبعض مفردات المتن ، فارتباط ( السنبلة ) بذلك التصوير الاستعاري قد خلخل الدلالة المباشرة ، ليواكبها ضمن كلية النص بعد كنائي يوحى بانفتاح مداليل مجاورة لمدلول (طلوع السنبلة ) كانبثاق حركة فكرية أو اختمار رؤية أو انبعاث أمة أويقظة شعب بعد فترة ركود وخمول وسبات...
إن الشاعر قد لجأ إلى تقنية "المعادل الموضوعي " لتجسيد الرؤية ، فهو لا يعبر عن أفكاره ومشاعره تعبيرا مباشرا ، بل يبحث عن أشياء أخرى تعادلها أوتنوب عنها فى نقلها إلى القارئ ، فقد وجد فى ( طلوع السنبلة ) وحصادها معادلا موضوعيا لاختمار الرؤية ونضوج الوعي وانبثاق الحركة الفكرية الإصلاحية التى ستجنى الأمة ثمارها وتقطف أفكارها ، وهذا ما يجعل القارئ أمام تنوع فى الفهم والقراءة ، غير أن هذا التنوع لا يعنى التناقض ، فهناك قراءة ظاهرية تحتمها القيود المعجمية أو التركيبية تأخذ القارئ فى طريق مستقيم إلى نهاية القصيدة فيدرك معناها الخطي ، وثمة قراءة أوقراءات باطنية أو تأويلية هي التى تؤدي إلى إدراك دلالة القصيدة وإلى تجاوز الفهم الساذج ، فالقراءة الأولى استكشافية سطحية تظل فيها الألفاظ متجردة من مجازيتها لأنها تقصد ماتقوله ، أما القراءة الثانية فهي القراءة البنيوية التى تتكشف فيها الدلالة العميقة ، عندما تقصد الكلمات شيئا آخر غير ما تقوله ، فتوحى بذلك( السنبلة الطالعة ) إلى مدلولات خفية .
إن النسق الكنائي الذي اعتمده النص تجسد فى بنية العنوان أولا ، ثم توالى فى بنائه الكلي ، وتتسم الكناية بغموض يؤدى إلى صعوبة رصدها على المستوى السطحي ؛ نظرا لتماهيها فى متتالية النص فهي تندغم فى الكلام والتركيب اللغوي ، ويظل السياق هو الكفيل بإضاءتها بشكل أساسي ، وقد أشرنا إلى توظيف الشاعر لتقنية " المعادل الموضوعي " في النص وهو مايصطلح بعض نقاد الحداثة على تسميته ( بالكناية الكبرى ) ، إذ أنه قد جعل من السنبلة وطلوعها ومايرتقب من ورائه معادلا موضوعيا لمداليل متقاربة ، يمكن اختزالها فى ما يبشر به من بزوغ أو ميلاد عهد جديد ، وهذا الحدث الواعد المبشر هو الذى يمثل النواة الدلالية التى تمحورت حولها جميع بنى النص التى كشفت عن نزعة صريحة باتجاه إنتاج الدلالة الإيحائية ؛ عبر استثمار الطاقات التعبيرية فى أبعادها اللغوية وسياقاتها الأسلوبية ، مما ينأى بالشعر عن الوقوع فى هوة التناول المباشر ، ليفتح أمامه إمكانات متنوعة للخلق والتشكيل والتجريب.