مع متنبي موريتانيا .../ إسلمو أحمد سالم
كثيرة هي القصص و الحكايات و الأحاديث عن الدكتور ناجي محمد الامام ، و راسخة و نقية هي صورته في مجالس الأدب و السياسية ، و عظيم هو عند جيل كامل تمثل اللغة العربية و العروبة ، و هام بالوطن و تألم لتعاسة بسطائه ...
ناجي و شعر ناجي قنديل أضاء للأجيال كامل دروب المستقبل ، و علمها كيف أن "الفكر لا يختفي " و أن "المبادئ" هي جزء من الكيان ، و لا تضمحل أمام كرنفالات المظاهر و ظغيان الدرهم ، و أنشأه على القناعة و الصبر و قيمة الوفاء للوطن و للأمة ....
ناجي ..أكبر من الجهة و الكيانات المحلية و التوازنات الوطنية ... إنه "عالمي" في كل تجليات إبداعته ، شاعر و أديب و مفكر "عربي" عبر الحدود و تجاوز مفهوم الأوطان ...
برمجت الرحلة منذ يومين ، و كانت كلمات الشاعر و قوافيه ملء مسامعي طوال الساعات ، أردد أشعاره التي عاينت ميلادها بعد أن نضجت ذائقتي الشعرية .
كأبياتتسحرني قصيدته : "قالت ولدت اليوم" :
حادثتُها لتُعيد لي أيـــــامي
عبقَ النسيم ورِقَّـــةَ الأحلام
وغضارة الأمل الظليل وبردَهُ
ومَخــــــــائلَ الخُيَلاء والإلهام
قالت: وُلدتُ اليوم ، قلتُ: لذا ازدهى
بلحُ العراق وياسمين الشام
ولمثل ذا غسل الصباح رِداء
مُطَّوِّفاً ليَّراك في الإحـــــــــــرام
وليومك انتظم الكلام قصــــيدةً
كالجُلَّنار مُعطَّرَ الأكمـــــــــــام
أو من قصيدته "مرفأ الليل " التي طالما مخرت معها عباب الأحلام ، و بحار الآلام :
الليلُ مَرفأُ أحلام المجاذيب
في الليل مخدعُ آلام الأعاجيب
والليل مقطعُ شعرٍ من معلقة
منثورة العقد في نظم وترتيب
الليل مَوْعدُ لُقيا طيفِها سحَراً
أملودِها الصامتِ المنقوعِ في الطيب
لا تنقضي لَذَّةُ الرائي إذا لبسَتْ..
تنورةً سَحَراً كُحْلِيَّةَ الرُّوبِ
و ربما غرقت في غزليات ناجي ، و حلقت معه أتحسس جمال صوره و سحر بيانه ، فطفقت أردد :
وتنثرين ظلالَ الطلِّ في الطَّللِ
ألوانَ ليلة عيد النرجس الثَّمِل
وتنشرين دمقسا بين أجنحتي
وتكتبين أفاويق الصبابة لي
أنا..أنتِ من أهدى إلى لغتي
سر العلاقة بين العطف والبدل
أنا أنا من حكى عن لون أشرعتي
سواك للصبح للإشراق للطَّفَل
قد يعتريني صُمات حين تفْجَأُني
عينٌ محجلةٌ بالنور فاحتملي
تُنَـزِّلُ الشعرَ طاؤوساً على شفتي
غَيْمًا من المسك أوجَبْحاً من العسل
و ربما تهادت درر الشاعر في خيالي ، بانسيابية و هدوء ، و لامست الوجدان برشاقة و سحر، و همهمت بصوت خافت ..
تعلمتُ… ذات بكور ..
وماءُ السماء.. يسيل انهمارا..
ودمعي يسيح انهمالا. .
صباغةَ وجهي برمش المطر..
فأدمنتُ إيقاع حباته ..
على سقف حافلة تتهادى..
تكاد مساندها تتهاوى....
ككل عتيق لها نكهة كأحاجي السمر..
لأن التي رهنت لغتي لهواها..
أطلّتْ وألقتْ على الراحلين السلام..
ثم استدارتْ…
لتمسك مزلاج باب الخروج
رمتني بنظرة شوق وقالتْ دون كلام:
سلاما..
فقلتُ بكل الحروف: تَمامًا..
عشت مع شعر الدكتور ليالي و أيام في خيالي قبل زيارته ، و بعد صلاة العصر لملمت كياني و امتطيت "البايانية" ، و مع كل خطوة أجتاز صورا و مظاهر و تجليات من حياته و إبداعته ، و مع زحام الطريق تزاحمني افكاره .
و ربما تساءلت متى نخرج من دوامة التسابق "الذاتي" عندنا في الحياة ، و متى نهتم لما يجمع و يبني هذا الوطن ، و متى نرى النور في آخر النفق ، فطفت إلى الذاكرة قصيدة الشاعر ..
رغم الملوحة والآثام و القلق
والصيف و الحيف والآلام و العرق
رغم التمزق و الأحقاد يزرعها
موتى الحياء وموتى الدين والخُلق
مازال، لازال ، في الأنفاس متَّسع
للخير للحب للإنسان للألق
مازال، لازال فينا الفضل ما صهلتْ
خيل ابن آمنة مزمومة العَرَق
لابُدَّ لا بُدَّ ، والرؤيا مؤكدة
أن يسطع النور ـ حتماً ـ آخرَ النفـــق
و لأن الشاعر مسكون ب"موريتانيا" و أنا مسكون بشعره ، فلا بد أن أتذكر جزءا من رائته الرائعة ...
واكتبْ على دفة الخمسين قافية
حقا عليك لربات المقاصير
خمسون عاما وما تدرين أن فَتَى
”أقان” ألبسَها شدوَ الشحارير
خمسون عاما دِنانُ الحب تكتبه
سفراً من السكر في صحو الأعاصير
لا ينبت الشعر إلا في خمائلــه
عطرُ المزاهر من طيبِ الأزاهير
الرحلة هي انتقال من "تيارات" و ما تحمله من حضارة "آدرارية" مضمخة بشذرات من حضارة "الكبلة" ، إلى "تفرغ زينه" و ما ترمز له من تحول و "نهب" في حياة سكان العاصمة ، و لكن الشاعر مهما ارتحل من مكان إلى مكان و من قطر إلى قطر ، فإنه يظل هو نفسه بتواضعه و نفسه المترعة بالجمال ، المثقلة بهموم وطنه و أمته ، و على ذكر الرحل ، تظهر ( مُعَلَّقَــــــــــــــةُ الرحيل)، فجأة مخترقة الزحام البنايات و المحلات الفارهة للمكان ...
هاهي ذي أزفتْ وحان الموعدُ
وذوى الحنين ونام عنا الفرقد
هاهي ذي أزفت ولاتَ الملتقى
لم يبــق للقيا ،فتاتي، مقعـــدُ
إن الهيام وإن لهيـــــــب أُوَارِه
لفح القلوبَ فسوف يخبو الموقد
أنا مَنْ سَبَتْ كُلُّ الخرائدِ لُبَّـهُ
أنا مَنْ لَحَاهُ علـي هواهُ الحُسّد
عُلقتُ كلَّ جميلة.. وأصيلةٍ
عندَ الغديرغَــذَا كُلاها الأَيْبَــــدُ..
توقفت السيارة أمام المنزل ، و لا أنكر أنني أحسست به قبل أن أتبينه ، فكأنما هو قصيدة مزجت و عجنت كل أحاسيس الشاعر، و جعلتها في لوحة فنية ، تنبجس من خلالها مشاعره و نظرته في الحياة ، و مع دخولي شعرت كأن غمامة من وقار تظللني ، لأنها أول مرة أقابله فيها الدكتور وجها لوجه ..
و داخل الصالون الذي أريد له أن يكون عند مدخل المنزل ، على الطريقة "التكانتية" التي تستقبل به الضيف ، وجدت الشاعر ينتظرني ، و لأن المجلس لا ينبغي أن يخلو من الأدب و الأدباء حظيت بلقاء صديق قديم هو الأديب و الكاتب (أفلواط ولد الداهي ) ..
بعد سلام و ترحيب متبادل شعرت بالألفة ، و استعدت عفويتي و حضوري ، و ربما قلت "حب الاستكشاف" عندي حتى أتعرف بطريقتي على ما قد يبين عنه الشاعر من جوانب من شخصيته .
كان الحديث دافئا ينسكب بعذوبة نحو الأنفس ، و كانت الكلمات موزونة مقفاة كأنها درر تنثر من عناقيد مجوهرات ، و لا تخطئك حكمة حكيم أو تجربة حياة، أو آية فقه محتواها، أو حديث فهم مدلوله، أو بيت شعر أو قول مأثور .
و للثقافة المحلية و الأدب الحساني حضور ينم عن تضلع في الفن و الشعر و التاريخ و مآثر الرجال ..
كان مساء جميلا أثرى المعارف و أمتع الأنفس ، و أخبر أن الزيارة الواحدة لا تكفي، و ربما لن تكفي الزيارات للعب من هذا الينبوع المترع بالفضائل و المعارف و الفكر و الثقافة و الأدب ، و للتمتع و التعلم و التثقيف و التربية ...
يقول ناجي محمد الإمام : أنا كائن سياسي بالألوان الطبيعية؛ ولكنني أعتزل البقعة الرمادية التي تتمرغ فيها "الأذواد" هذا الزمن الأجدب.
و أردد أنا آخر أبيات سمعتها للرجل الذي يجتاحة المطر ..
مالي سوى الله من واق ولا راق
ولا مقيت ولا كاس ولا ساقي
إن كنتُ أهملتُ لاشكّا ولا بطرا
فقد صرعت بإيمانيَ إملاقي
فلا تدع دولة الشيطان تصرعني
واجعل من الخير سُباقي ولُحاقي
وارفع بلاءك عن شعبي وجيرته
نت الغفور وانت الخالق الباقي
حفظ الله و رعى الشاعر الدكتور ناجي محمد الإمام