من ضيق المكان إلى ضياع المعنى... في طيبة الطيبة!

أ. محمد الزايد - إعلامي من الجالية

أ. محمد الزايد - إعلامي من الجالية

في ثاني أطهر بقاع الأرض، وأحبّها إلى الله، بجوار طيبة الطيبة ومثوى الرحمة المهداة، حيث ترفرف السكينة، وتنسكب الدموع خاشعةً على ثرى النبوة، اجتمع جمعٌ من أبناء الجالية الموريتانية في صالةٍ لا تتجاوز مساحتها خمسًا وعشرين ذراعًا في رُبع، حتى خُيّل إليّ أن جدرانها تضج وتصيح: "ضاقت الأرض بما رحبت".

 

ازدحم القوم حتى كاد أحدهم يطأ قدم أخيه، أو يزاحمه بمرفقه دون قصد، لا لعداوة، بل لفرط الزحام وسوء التقدير. أما التكييف، فقد ألقى سلاحه، واستسلم لأنين الصيف، فلم يطفئ نارًا، ولم يُبرّد جسدًا. وكلّ ذلك تحت سقف فندقٍ من فئة الخمس نجمات، لكنه لم يُصمَّم لغير السياحة، أما التنظيم، فذاك حديثٌ آخر.

 

وما كانت المشكلة في ضيق المكان، بل في ضيق صدر من أدار المكان... فالمكان لم يُهيأ لاستيعاب هذا الحشد، ولا العقول أُعدّت لإدارته.

 

وما هي إلا لحظات، حتى علت الأصوات، وتزاحمت الأسئلة:

 

"هل اسمي في القوائم؟"

"هل تم تسجيلي؟"

"لماذا لم يُبلَّغ أحد بشيء؟"

 

لكن لا عينٌ أبصرت، ولا أذنٌ سمعت، ولا ضميرٌ أجاب.

 

وكأنّما خُتم على الأسماع والبصر، فلا يُدرى من المسؤول، ولا يُعرف من المنسق!

 

قيل إن الإدارة المعنية قرّرت أن تجمعهم، ثم تركتهم في حيرةٍ كأنهم أيتام موائد الكبار. فلا أحد أُبلِغ بقبول، ولا بقرار رفض. بل الأغرب: لا المقبول يدري لماذا قُبِل، ولا المرفوض يفقه سرّ الإقصاء.

 

فإن كان منكم مَن أُوتي علم اللوح والقلم، فليخبرنا، فو الله ما رأيت في المقبولين مزيةً ترفعهم، ولا في المرفوضين عيبًا يُسقطهم.

 

ثم، بعد طول انتظـار، أطلّ المسؤول بوجهه البشوش ولسانه المطبوع، فسلم، وابتدر الحضور بكلمات مدحٍ وامتنان، أثنى فيها على الجالية وصبرها وفضلها ومكانتها في خدمة الحجيج والمعتمرين.

 

وأنا — ممن خبر المسؤولين — ما إن سمعت المدح حتى وضعت يدي على قلبي، فإن مدح القوم بداية كل خطب:

إذا رأيت أنيابَ الليثِ بارزةً *** فلا تظننَّ أن الليثَ يبتسمُ

 

ثم سرعان ما انزاح عن المديح إلى تبريرٍ معروف، فقال: "نحن نرحب بكم كمتطوعين، بلا أجر، وهذا شرفٌ لا يُردّ".

 

ولكنّه نسي — أو تناسى — أن جالية الحرمين تتطوع كل يوم في مواقع مشرّفة ومنظمة، دون تزاحمٍ في صالات ضيقة، ودون امتهان أو منٍّ لا محل له.

 

وما إن أدرك أن كلامه لم يُشبع الحاضرين، حتى انتقل إلى الأعذار: "قلة الموارد هذا العام... تقرّر صرف ألف ريال فقط للعامل، وبشروطٍ محددة: دوام غير محدد، بلا فطور، ولا غداء، ولا عشاء. والإعاشة مسؤوليتكم الشخصية! وغياب يوم واحد ولو كان آخر يوم في العمل يحرمكم من الآلف ريال كلها".

 

 

ثم جاءت الطامة: تقليص عدد العمال مقارنة بالعام الماضي! رغم أن ممثلي الجالية اجتمعوا بالوزير قبل أشهر، وطالبوا — لا فضلًا، بل عدلًا — برفع المكافأة التي كانت 1500 ريال. فإذا بهم يُفاجَؤون أن الأعداد قُلّصت والمكافأة نُقصت إلى ألف ريال فقط.! مع العلم أن جميع بعثات الدول للحجاج تأخذ عمالا بمبالغ لا تقل عن خمسة آلاف ريال للفرد.! ونحن فقط بعثتنا الاستثناء.

 

 كما يقول مثلنا البيظاني: "جا يدور الزايد، انقطّعوا الزوايد!"

 

وكأنهم لم يأتوا ليُكرَموا، بل ليُعاقبوا على مطالبتهم بالإنصاف.

 

ولم تقف العجائب عند هذا الحد، بل حين نُشرت الأسماء، كانت الصدمة الثانية: لا المقبول فَهِم لِمَ قُبِل، ولا المرفوض عَلِم لِمَ رُفِض.

 

وإذا سألنا، قيل: "الأولوية للمسجلين سابقًا في الأعوام السابقة".

 

لكن، أين هم أولئك السابقون؟ البعض يقول إنه مسجل في الأعوام السابقة ولم يكن من المقبولين.!

 

عن أي معيارٍ نتحدث؟

 

نظرتُ في الوجوه، كعادتي في مثل هذه المواقف، فثمة أسرار لا تُقال، بل تُقرأ من تقاسيم الوجوه... رأيت في العيون دهشةً، وفي الخدود غُصة، وفي الصمت صرخةً مكتومة.

 

لا المقبول رضي، فالمكافأة لا تليق، ولا المرفوض سلِم، فقد ضاع منه الوقت والأمل والحُلم

 

 وعلى لسان حال الجالية:

"سِرنا نرجو زيادةً فابتُلينا... بالنقص والخذلان والحرمان"

 

وكان التنظيم أقرب إلى مسرحية مرتجلة، بلا سيناريو، ولا مخرج، ولا ترتيب.

 

والإدارة؟ قد غابت عنها البركة، وافتقدت أبجديات التدبير.

 

اللهم اجعل موسم الحج هذا موسمًا مباركًا لحجاجنا الأكارم،

 

موسمًا يخلو من العبث، وينجو من سوء الإدارة...

 

وإن كنتُ أخشى أن يجدوا في الطريق ما وجدناه.

فالإدارة — للأسف — متبركة بالفوضى، والله المستعان.

 

19 May 2025