الوساطة والجاه وعلاقتهما بالسلطة في المجتمعات التي ترتفع فيها نسبة الأمية

د. سيدي محمد أحمد المصطف

في المجتمعات التي ترتفع فيها نسبة الأمية، تبرز آليات غير رسمية لتنظيم العلاقات الاجتماعية وحل النزاعات، وحتى الوصول للسلطة أو الوظيفة حيث تُحلَّل مفاهيم مثل "الوساطة" و"الجاه" كأدوات رئيسية في تشكيل السلطة. تُعد هذه الظواهر انعكاسًا لغياب المؤسسات الرسمية والشفافية أو ضعف ثقة الأفراد بها، خاصةً في ظل محدودية القدرة على القراءة والكتابة، مما يعزز الاعتماد على العلاقات الشخصية والشبكات التقليدية.

 

الوساطة: جسرٌ بين الأفراد والمؤسسات 

في غياب التعليم الرسمي الفعّال، تصبح المعلومات والخدمات حكراً على من يمتلكون القدرة على قراءة النصوص أو التفاعل مع الأنظمة البيروقراطية. هنا تظهر الوساطة كحلقة وصل بين العامة وهياكل السلطة، سواء كانت حكومية أو اقتصادية. غالبًا ما يتولى دور الوسيط أشخاصٌ يتمتعون بثقة المجتمع، كشيوخ القبائل أو شيوخ "الدين" أو الأثرياء، الذين يستخدمون نفوذهم لتسهيل الحصول على حقوق أو طمسها أو حل نزاعات. على سبيل المثال، في بعض القرى الأفريقية والآسيوية، تُحلُّ الخلافات عبر مجالس عشائرية بدلاً من المحاكم، مما يعكس هيمنة الأدوار التقليدية على حساب القانون المكتوب.

 

الجاه: العملة الاجتماعية للسلطة 

الجاه، أو النفوذ الاجتماعي، يُكتسب عبر عوامل مثل الثروة أو الانتماء العائلي أو السمعة الأخلاقية أو الدينية فقط، وفي المجتمعات الأمية يصبح هذا النفوذ أساساً للتراتبية الاجتماعية، حيث يتحول أصحابه إلى "وسطاء ضروريين" بين الأفراد والسلطة. يُعزز الجاه من خلال شبكات المعاملة بالمثل: فالشخص ذو النفوذ يقدم خدمات (كالتوسط في توظيف أو تدخل في أزمة) مقابل الولاء أو الدعم السياسي. هذه الديناميكية تُرسخ نظامًا زبائنيًّا Patronage) ) تتركز فيه السلطة في أيدي قلة، غالبًا على حساب الشفافية والعدالة.

 

يمكن النظر في كتاب البادية للشيخ محمد المامي عند حديثه عن حكم بيع "الوجاهة" لمعرفة الحكم الشرعي لهذا.

 

العلاقة مع السلطة: تفاعلٌ معقد 

تُظهر المجتمعات الأمية تداخلاً بين السلطة الرسمية وغير الرسمية. فالحكومات قد تتعاون مع الوسطاء وأصحاب الجاه لضمان الاستقرار، خاصة في المناطق النائية حيث يصعب فرض القانون. لكن هذا التفاعل قد يُضعف المؤسسات الرسمية على المدى الطويل، إذ يعتاد الأفراد على حل مشاكلهم خارج إطار الدولة. من ناحية أخرى، يستخدم أصحاب النفوذ سلطتهم لتعزيز مصالحهم، أحيانًا عبر استغلال جهل الآخرين، كالتحكم في توزيع الموارد أو تزييف المعلومات، وهذا ينتج عنه غالبا تحييد المسابقات الوطنية أو حتى استخدام هذه الوسائل لإنجاح متسابق على آخر.

 

التحديات والانتقادات 

رغم فاعلية الوساطة والجاه في سياقات محددة أحيانا، إلا أنها تكرس ثغرات خطيرة: 

1. الاستبعاد الاجتماعي: قد تُهمش فئات مثل النساء أو الأقليات، خاصة إذا كانت أميتهم أعلى أو لم يُسمح لهم بالمشاركة في شبكات النفوذ.

2.  الفساد: غياب المحاسبة يشجع على استغلال المنصب لتحقيق مكاسب شخصية.

3.  تعميق التخلف: إبقاء المجتمع معتمدًا على الأدوات التقليدية يُعيق تبني حلول مؤسسية مستدامة.

 

خاتمة 

الوساطة والجاه ليسا شرّين مطلقين، بل هما حالتين إنسانيتين واستجابة طبيعية لظروف اجتماعية صعبة، ومع ذلك، فإن تفعيل دور التعليم والكفاءة المعرفية والمهنية وتعزيز المؤسسات الشاملة قد يحدان من الهيمنة غير الرسمية للوسطاء، ويفتحان المجال لسلطة أكثر عدالة وشفافية. ويجب أن تسعى الحكومات والمجتمع إلى موازنة هذه الأنظمة دون إلغائها، عبر دمج الزعماء المحليين في هياكل مسؤولة، مما يحقق الاستفادة من نفوذهم مع ضمان الحقوق للجميع.

 

27 January 2025