الاقتصاد بذاكرة بدوية
قبل الخوض في موضوع الاقتصاد وتطوره في المجتمع الموريتاني، دعونا نعود إلى كيفية تعامل البدوي الموريتاني مع "الخاطرة" أو ما يُعرف بـ"التَّخْمَامْ". وقد أجد من المناسب الاستعانة بالعالم الاجتماعي الراحل محمد آل هدار، الذي ألهم الكثير من المفكرين بعمق نظرته إلى طبيعة الحياة والتفكير في البيئة البدوية.
مثالًا على ذلك، قال مُحمَلْ هدّار: "اتْمَشّيْتْ افْ شِ تِمشَّايْ، اطْلَع ابْتَيْتْ اكْبَارْ" هذه المقولة تعكس فكرة أن البدو لا يتعجلون في اتخاذ القرارات، بل يسيرون بتروٍ وتفكير عميق. يعبر هذا القول عن أهمية تحديد الهدف بوضوح، بحيث يصبح ما نفكر فيه جزءًا من "ماضي المستقبل"، وهو تعبير رمزي عن النظرة الطويلة الأمد للأمور.
بعد "التَّخْمَامْ"، يأتي التفكير كمرحلة طبيعية، حيث يشير محمل هدار إلى عملية التفكير بوصفها دورانًا مستمرًا، كما في قوله: "مَاه عْلِيهْ الْمَدَارْ، الْجُودْ مَرْكَبْ سِيدْ الْمَخْطَارْ انْدَارْ، وِلَ دَارُو دَوَّارْ إعُودْ أَلَّ دَارْ عْلِيهْ الْمَدَارْ" في هذه المقولة، يشبّه التفكير بدورة متواصلة لا تنتهي، تدور بين الفكر والواقع، حيث يعتمد البدوي على هذا الدوران في اتخاذ قراراته.
بعد التفكير، ينتقل البدوي إلى مرحلة التنظير، والتي تتجسد في قوله: "أَرَاهْ أَصَّ لَعْبَادْ الَّعْبَادْ مَا تّعْطِي شِي": هنا يبدأ البدوي في التفكير في المفاهيم العامة والقيم الأساسية التي تؤثر في المجتمع.
إذن، الترتيب المنطقي عند البدوي في التعامل مع الأمور هو: التَّخْمَامْ (أو الخاطرة)، ثم التفكير، ثم التنظير. وهذه المراحل تتناغم مع أسلوب حياة البدو الذي يعتمد على التروي والتمعن في كل خطوة قبل الإقدام على أي قرار.
من البديهي اليوم أن الاقتصاد يعتمد على عدة عوامل أساسية، من بينها الضرائب، التي تحتاج إلى قوانين منظمة وإجراءات صارمة لمحاربة التهرب الضريبي. تسعى الدولة لتنظيم فرص الاستثمار بهدف خلق بيئة ملائمة لتأسيس المؤسسات وظهور رجال الأعمال.
لكن البدوي، بطبيعته، كان ينظم "مناخ الاستثمار" في بيئته الاجتماعية بشكل مختلف تمامًا. هدفه الأساسي كان تقديم العون والمساعدة للمجتمع من خلال نظام تكافلي يتجاوز مفهوم الضرائب. بمعنى آخر، كانت "ضريبة المستثمر" في المجتمع البدوي تتمثل في المساعدة الاجتماعية، حيث يقوم الشخص الذي لديه قدرات مالية أو موارد معينة بمساعدة مجتمعه بدلاً من دفع ضريبة مالية للدولة.
على النقيض، في العالم الرأسمالي المعاصر، نجد أن الضرائب تُفرض دون أي مقابل اجتماعي مباشر. وهذا النظام يُشجع على التهرب من الضريبة، مما يدفع رجال الأعمال للدخول في دوامات من الفساد والرشاوى، بحثًا عن منافذ للخروج من التزاماتهم الضريبية.
إذن، السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل علينا خلق رجال أعمال بذاكرة اقتصاد بدوي؟ أم بذاكرة دولة؟
وأيهما الأفضل؟ وما هو البديل؟ وهل هناك رؤية واضحة لاقتصاد اجتماعي يتماشى مع تقاليدنا وعاداتنا؟
الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب تفكيرًا عميقًا. ربما يكون من الممكن الجمع بين النظامين، بحيث نستلهم من النظام التكافلي البدوي الذي يعزز المسؤولية الاجتماعية، ونطور قوانين ضريبية تأخذ في الحسبان تلك الجوانب الإنسانية. تحتاج موريتانيا إلى اقتصاد اجتماعي يتماشى مع تقاليدها وعاداتها، نظام يعزز التعاون بين الدولة ورجال الأعمال والمجتمع، بحيث يتم استثمار الثروات لصالح الجميع.