جامعة المحظرة الشنقيطية الكبرى... سمو الفكرة وعقبات الريادة

 لئن كان المصريون يصفون مصر بأنها "هبة النيل" ؛ فإنه ليس من المبالغة في الحكم ، ولا من المجازفة في الوصف أن نقول نحن  إن موريتانيا حديثا (شنقيط قديما )  "هبة المحظرة"؛ فبها اشتهرت؛  وباسمها عرفت؛ ومنها انطلقت سفارتها العلمية والمعرفية؛ وبها نالت جواز سفرها الحضاري " ؛ ومن خلالها كسرت القاعدة الخلدونية؛ حيث بنت "بداوة عالمة" أبهرت العلماء والباحثين في شتى بقاع الأرض قديما وحديثا؛ لتخريجها علماء موسوعيين جمعوا الريادة في المنقول إلى التميز في المعقول؛ وحافظوا على علوم الشريعة من الاندراس؛ وعلوم الآلة من الانطماس ....

ظل علماء المحظرة وربابنة سفنها يشقون بها عباب بحور التحديات ؛ ويشقون بها أمواج تقلبات الحياة الهائجة؛ وظلت المحظرة شجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؛ بتخريجها علماء مهرة في علوم الشرع ؛ مبرزين في علوم الآلة؛ بيد أن مياها كثيرة جرت تحت الجسر ؛ وتحديات جسيمة طغت على حياة جعلت استمرار الرعاية الأهلية للمحظرة صعبة وشاقة؛ مما يهدد الإرث الحضاري الشنقيطي في عنوانه الأبرز ( المحظرة)؛ لذا كان لزاما على بلد يحترم تاريخه، ويسعى لصون هويته، ومكتسباته الحضارية أن يبادر لتدارك الأمر؛ فجاء القرار بإنشاء مؤسسة جامعية حملت عنوان "المحظرة الشنقيطية"؛ وللتأكيد على أهميتها وصفت "بالكبرى" ؛ وحددت لها أهداف عظيمة.

أهداف المحظرة الشنقيطية الكبرى:
حدد المرسوم المنشئ للمحظرة الشنقيطية الكبرى بأكجوجت جملة من الأهداف تعكس الأهمية التي توليها للدولة لهذه المؤسسة ذات الهدف الحضاري المهم؛ ومن هذه الأهداف:
* ترسيخ وترقية المحظرة الموريتانية للحفاظ على ألقها؛
* النهوض بمهمة تكوين وتأهيل العلماء في علوم الشريعة واللغة العربية؛ 
* الحفاظ على الثوابت الوطنية والدينية؛
* استرجاع الصورة الناصعة للعالم الموريتاني بموسوعيته واعتداله البعيد من الغلو والتطرف بجميع أشكاله؛ 
* استقبال طلاب  العلوم الشرعية وتكوينهم ليصبحوا علماء مؤهلين للاندماج في الحياة النشطة ولأداء الدور المنوط بهم؛ 
* تشجيع نشر العلوم العربية والثقافة الإسلامية من خلال فتح ٱفاق رحبة للمتميزين محظريا؛
* الإسهام في مد الإشعاع العلمي والثقافي للبلد في الربوع العربية والإفريقية والدولية...
إن الناظر لهذه الأهداف الكبيرة؛ والمهام الجسام يدرك عظم الأدوار التي أرادت الدولة للمحظرة الشنقيطية الكبرى أن تقوم بها؛ فهي بهذا المنظور يراد لها نقل المحظرة وبئتها العلمية ومخرجاتها العالمة وسفارتها الحضارية لبلاد شنقيط من " ظهور العيس إلى فصول التدريس".

المحظرة الشنقيطية الكبرى... عقبات الريادة وأسس الإقلاع:
سأحاول في هذه النقطة التوقف دون تهويل ولاتهوين مع أبرز العقبات التي حالت دون السير المطرد والمستمر للمؤسسة في اتجاه تحقيق أهدافها ولعب الأدوار المنوطة بها على أن أقدم في الجزء الثاني منها مقترحات عملية أعتبرها أسس إقلاع ومرتكزات انطلاق.
1- المحظرة الشنقيطية الكبرى... عقبات الريادة:
 رغم سمو فكرة المحظرة الشنقيطية الكبرى ومحورية الأهداف المرجوة منها، والأدوار المنوطة بها؛ فإنها لم تعط من العناية والرعاية ما يسمح لها بالانطلاق السليم؛ بل أكثر من ذلك عاجلتها عقبات كثيرة منعتها من الانطلاق في الوقت ، ومن الاستمرار في السير السليم، وهذه أبرز العقبات التي واجهتها:
* تأخر الانطلاقة وتعثرها؛ حيث تأخرت انطلاقتها عاماً كاملاً؛ مما أثر بشكل كبير على الزخم الذي واكب قرار الإنشاء والتأسيس ؛ حتى راودت وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي السابق فكرة تحويلها بمقرر متجاهلا أنها أنشئت بمرسوم ولا يتم تحويلها إلا بمرسوم ؛ وهنا يحسب لرئيس الجمهورية الحالي محمد الشيخ الغزواني قراره الصارم بإطلاقها فورا وإبقائها في مكانها؛ دعما للامركزية التعليم العالي وتنوبعا لعروضه؛ وقبل ذلك الشروع الفعلي في الرعاية الرسمية لمؤسسة تعليم عال تحمل اسم المحظرة وتسعى لمواصلة رسالتها؛ وهو قرار لم يرق لمن يرون في المحظرة وإشعاعها أبرز عائق في وجه مشاريعهم المعاكسة لهوية الشعب ولغته الحضارية؛ 
* التراجع العملي للشريك الخارجي عن التزاماته بالدعم والرعاية ؛ حيث لم يتم بناء مقر للجامعة حتى الآن؛ وقس على ذلك باقي الالتزامات ؛ وهنا تدخلت الدولة مرة أخرى بتوفير ما يضمن للمؤسسة الانطلاق والاستمرار ريثما  يفي الشريك بالتزاماته أو تقرر الدولة بناء مقر جامعي للمؤسسة ؛
* ضعف صياغة المنظومة القانونية المنظمة للمؤسسة؛ وصباغتها برؤى متنافرة ومتباينة؛ مما حد من قدرتها على الانسجام مع مقتضيات المنظومة الحاكمة للتعليم العالي والمنظمة لمختلف جوانبه؛ 
* بسبب النقطة السابقة عانت المؤسسة من نشأتها إلى اليوم  في جانب التعيين من مخالفة صريحة للمادة رقم.29 من قانون التعليم العالي  043- 2010 التي تنص على صفة من يتولى الإدارة المساعدة و الإدارة العلمية في المؤسسات الجامعية غير التابعة للجامعات؛ بالإضافة إلى مخالفة قانونية صريحة للمادة رقم 17 من مقرر هيكلة المؤسسة التي تنص على أن يتولى الإدارة العلمية والتربوية 
     أستاذ  من بين أعضاء هيئة التدريس؛ يتمتع بالكفاءة في العلوم الشرعية واللغوية؛ 
* الإنهاك المبكر والمستمر لكاهل المؤسسة  بعدد كبير من الإداريين وعمال الدعم؛ مما جعل المتوفر من الموارد المالية للمؤسسة مستنزفا في غير رسالة المؤسسة الأساسية ومهمتها الأولى؛ وقد انعكس ذلك على مخصصات البحث العلمي والأنشطة الثقافية والتأطير التربوي، والتطوير الإداري؛ 
* عدم الاهتمام بتحصيل الوسائل الكفيلة بتحقيق أهداف المحظرة الشنقيطية الكبرى خصوصا ما يتعلق بالجانب العلمي ؛ ذلك أن المناهج الدراسية للمؤسسة روعيت في صياغتها وبنائها موسوعية العالم المحظري؛ وهو ما يتطلب جهدا كبيرا ورؤية واعية واقعية.

2- المحظرة الشنقيطية الكبرى... أسس الإقلاع :
في خضم الحراك الحالي في التعليم العالي والحديث المتنامي عن الاهتمام به؛ وفي ظل سعي الجهات العليا في الدولة إلى إعادة المؤسسة للسكة ووضع رؤية للانطلاق بها من جديد ولإقلاع بها نحو أهدافها السامية أقدم بعض المقترحات التي أعتبرها أسس إقلاع جديد:
* مراجعة المرسوم المنشئ ؛ بحيث يوافق في نصوصه ومضامينه القانون المنظم للتعليم العالي؛ وتعطى من خلاله اسما يحدد هويتها الجامعية؛ ويحافظ على أهدافها المعرفية والحضارية؛ فيمكن مثلا أن تسمى: المدرسة العليا للفنون المحظرية والعلوم الإنسانية؛ وهو ما يمنحها ميزتي المدارس العليا ( محدودية في العدد ونوعية في التكوين)؛ 
* تصحيح الاختلالات القانونية الحاصلة في تولية المناصب والوظائف خصوصا ما يمس بشكل مباشر رسالة المؤسسة ويعيق انطلاقها الواعي نحو تحقيق مهمتها الكبرى..
* المبادرة ببناء مقر إداري وتربوي يمكن المؤسسة من الاستقرار والاستمرار وينقلها من وضعية إعارة البنايات والمقرات التي توجد فيها حاليا.
* القيام بتدقيق إداري منصف وعادل يحتفظ للمؤسسة بما ومن تحتاجه في الوظائف والمهام ويتم توجيه البقية لجهات اخرى؛ مما يخفف عن كاهل المؤسسة ويمنحها إمكانية التحرك لتحقيق أهدافها المنشودة...
* تكليف لجنة علمية فنية بوضع خطة محددة المراحل والأهداف من أجل قيام المؤسسة بأدوارها المنوطة بها....
* إعطاء المؤسسة بعد ذلك فرصة زمنية كافية لتحقيق ما أنشئت من أجله؛ وعدم مقارنتها بمؤسسات أخرى متقدمة عنها زمنا ومختلفة عنها رسالة ومهمة، وعدم النظر إليها بمنظار " تقني" لا يرى صاحبه قيمة لغير " جهاز" ، ويتجاهل أن "جواز سفر الشناقطة الحضاري" نالوه بالمحظرة علوما ورجالا، وأن لكل مجال معرفي " سوق عمله" ، وأن زوايا تحديد الجدوائية ليست"مادية بحتة"؛ فثمة إرث حضاري و معنوي يستحق التضحية بالغالي والنفيس..

 

د.محمذن فال محمد يحظيه

ـ أستاذ النحو والصرف بجامعة المحظرة الشنقيطية الكبرى بأكجوجت

 

31 October 2024