أشياء 3 قد تمنعك من قراءة رواية "الذيب"
1. هل يحمل عنوانها المكون من كلمة واحدة إيحاء بتراجيدية (البؤساء) لفيكتور هيجو. أو (الأبله) لدستوفيسكي وغرائبية (مريود) للطيب صالح لكنها بخلاف كل ذلك؟
2. أو أن صغر حجمها، الذي لا يتجاوز مئتي صفحة من القطع الصغير، يشعرك بإمكانية إتمام قراءتها في بضع ساعات فهي وسط بين قصة طويلة ورواية قصيرة كمعظم روايات الألفية الجديدة!
3. أو ربما لأنها حصلت على جائزة في أول سنة صدورها!
هذه قراءة متأخرة بعض الشيء لنص احتفينا به قبل أشهر مضت حين قدمنا التهنئة للإعلامي والكاتب الموريتاني (أحمد سيدي) بفوزه بجائزة الشارقة للإبداع العربي عن روايته (الذيب)، ولم يتح لي أن أقرأ الرواية إلا مؤخرا؛ فوقفت على رواية غنية ومغرية للقارئ والناقد على حد سواء.
تدور أحداث رواية (الذيب) في حقبة الاستعمار الفرنسي الذي تسلل لموريتانيا في أواخر القرن التاسع عشر، ففي عام 1903، أصبحت موريتانيا رسميًا تحت الحماية الفرنسية، وجرى فرض السيطرة تدريجيًا. لاحقًا، في عام 1920، أصبحت موريتانيا مستعمرة فرنسية بشكل كامل وضُمّت إلى مجموعة المستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا.
بعد فوزها بالجائزة، فتحت الرواية أبوابًا واسعة للوصول إلى الجمهور العربي، لتصبح من أوائل الأعمال الموريتانية التي طرقت مخيلة القارئ العربي. لكن ما أضفى عليها بريقًا خاصًا هو قدرتها على رسم ملامح واقع مشترك بين المجتمعات العربية، مهما اختلفت تفاصيلها فهي تحمل ملامح كل الصحاري العربية، مشرقها ومغربها. تحمل الرواية على أكتافها حكاية بلاد شنقيط في زمن الاستعمار، ذلك الذي اخترق عزلتها النبيلة، ليكشف لنا عن تجاعيد الزمن الخفي الذي عاشته.
هل هي رواية تاريخية؟
تدخل رواية الذيب في تصنيف الروايات التاريخية، من ناحية تناولها لأحداث تدور في تلك الفترة من تاريخ موريتانيا. وتسلط الضوء على التحديات الاجتماعية والسياسية التي واجهتها المجتمعات المحلية في تلك الفترة، من صراعات ومقاومة وطنية، إلا أن الغائب في تاريخية هذه الرواية هو تعريض شخصياتها الرمزية لأحداث التاريخ الحقيقية التي مرت بها البلاد مع مدخل القرن الماضي، ودور أبطالها في تلك الأحداث. ومع تاريخيته يبدو العمل أكثر واقعية وجدية حينما يتوجه بالنقد الاجتماعي والثقافي لتلك الفترة، حين يقدم المجتمع الموريتاني ضمن تلك الحقبة من تاريخه وما شابها من صراعات داخلية وخارجية، ومن خلال تحليل الصراع الاجتماعي السياسي تُقدم الرواية دروسًا عميقة حول ما لحق بالتجربة الثقافية والدينية والاجتماعية، التي صنعت موريتانيا الجديدة، مما يجعلها نصًا غنيًا للتأمل في القضايا الاجتماعية والنفسية المعاصرة، ليس للمجتمع الموريتاني وحده، بل لكل المجتمعات العربية التي مرت بظروف تاريخية مشابهة. وعندما ننظر إلى موريتانيا التي يعرضها النص سنكتشف أنها رواية سياسية واجتماعية وثقافية أيضاً. وهو ما يشرحه لعبار أول الأبطال ظهوراً، حيث يقول في نفسه وهو يتأمل الفتوحات المعرفية لأحد علماء شنقيط الذين أبهروا الشرق بنبوغهم:
"لو أن ولد اتلاميد بقي في هذه الصحراء لما التفت إليه أحد، ولذهبت ذكراه مع الزوابع، وذرت الريح سيرته كما تذرو الرماد. في كل خيمة شنقيطية يستلقي شاب أو شيخ تضيق المكتبات عما يتسع له صدره من العلم، وما يحفظه من أمهات كتب الفقه والحديث والشعر واللغة، يعيش منزويا بكتبه ويموت فينقطع ذ كره".
هكذا يعرفنا النص بموريتانيا الثقافية كجزيرة غارقة، لم يظهر منها للعالم العربي والإسلامي إلا أعلى جبل الجليد.
إعلان استقلال الرواية:
وعندما نتساءل عن مدخل نقدي يمكن أن يُخرج كوامن هذا العمل، لا نجد أفضل من شلّة ما بعد الاستعمار، حيث إدوارد سعيد الناقد وزملاؤه من مدرسة "ما بعد الاستعمار(Post-colonialism) " الذين يتحلقون ليفضحوا الرواية الغربية التي انتجتها تلك الفترة من التاريخ، بقولهم ودون مواربة "أن الرواية فن استعماري بامتياز" الآن لدينا نص آخر غير موسم الطيب صالح، وثلاثية نجيب محفوظ، وخبز محمد شكري، يتقدم لمبارزة الاستعمار داخل حلبته، إذن يمكننا إعادة قراءة النص الذي بين أيدينا والذي يتناول موريتانيا في تلك الحقبة من تاريخها عبر هذا المنظار.. فما الذي يمكن أن نشاهده؟
وبين عذاب الفقد، وألم الغدر والوشاية ينطلق الكاتب الموريتاني الشاب في إعادة قراءة التاريخ الموريتاني وتحليل مفهوم الاستعمار في المتداول اليومي والمخيال المحلي، وبأساليب التعبير الدارجة وبتمكن عال في استخدام الرمزية والتصوير السردي المتقن، تظهر الرواية كتحفة أدبية تجسد النضال المستمر في تلك البقاع ضد قساوة الطبيعة وظلم الإنسان وعبثية التغلغل الاستعماري، وتبرز في غضون ذلك التخلق التاريخي لموريتانيا الحديثة.. الدولة والمجتمع، التي تبدو دائماً في خطاب هذه الرواية صورة لم تكتمل.
"في ذلك الوقت؛ ارتدت ملاءة الحزن واتشحت لحظاتها بالسواد. في ذلك الوقت؛ ارتوت أرض الحي بالدموع، حتى لعبار.. ذلك الفارس الأسطوري الذي لم يتوقع أحد بكاءه، بللت الدموع لحيته البيضاء كرغوة اللبن، وظل شهرا لا يخرج من خيمته. شاخ بين عشية وضحاها جراء عذاب الفقد، وألم الغدر والوشاية".
بهذا المطلع الحزين الذي يصور الأجواء المحيطة بنهاية بطلها، تبدأ وتنتهي رواية "الذيب" والتي تأخذ شكلًا فنيًا يجسد العلاقة العميقة بين الإنسان والأرض، مستلهمة من التاريخ الثقافي والاجتماعي للمجتمع الموريتاني، والجغرافية المفتوحة بين البر والساحل قصتها وشخصياتها، حيث تبني الرواية عالمها البسيط والعميق في آن واحد.
النضج الفني:
لأول وهلة قد يبدو كل شيء تقليدياً ومألوفاً لدرجة نادرة في الروايات الشابة، مما يشعرنا أننا أمام رواية ناضجة في إنسانيتها، اختار لها الكاتب حبكة تستند إلى عدوانية الإنسان تجاه الأغراب الذين يخترقون عنوة أطره الذاتية وخصوصياته الثقافية والاجتماعية، وناضجة في بنيتها السردية وحكايتها الداخلية وطريقة اختيار وتقديم الشخصيات وتطورها ضمن خط واضح للأحداث.
فعلى مستوى الحكاية الداخلية، ينسج السرد من تساؤلات الخايب في تخلقاته الثلاث (علي – الخايب - الذيب) وتأرجحات لعبار بين استنارته وسط المحاربين وفروسيته وسط الزوايا، وتحفظات الأمير زناد، وانكسارات شامخ وغيرها من الملامح النفسية لمريم وصديقاتها، وغيرهم من شخصياتها يتكامل النسيج ليسهم بكل تناقضاته في إبراز ملامح موضوعة (النضال ضد المستعمر) كمحور وثيمة رئيسية تصنع الوحدة الموضوعية للرواية ومع قوة هذه الثيمة فهي تعمل في الخلفية، ولا تطغى على روح النص على نحو صارخ، هنا يتم التعبير عن رفض الحالة الاستعمارية عبر الأفعال وردود الأفعال دون تصريح وبلغة ومفاهيم تناسب المكان والإنسان، على نحو موضوعي، فالقادمون الجدد هم كتلة من الأوصاف ليس من بينها كلمة "مستعمر" التي لا تظهر في النص إلا على لسان الراوي فالشيء الوحيد الذي يعرفه سكان تلك الوديان في من جاءوا يخترقون عزلتهم المجيدة سوى لونهم وطريقتهم الفظة في التعامل مع البشر هو كونهم "نصارى" وهي عبارة لا تحوي الانتقاص الذي تحويه كلمة "كافر" التي تستخدمها شعوب جنوب شرق آسيا لوصف الوثنيين من السكان المحليين .
يُظهر الخطاب السردي لأحمد سيدي مواقف وحوارات تحكي الضغوط والمشاعر المتضاربة المصاحبة لوصول المستعمر لتلك الديار، ويحلل دورها في تفكيك التماسك الداخلي للأفراد والبنية الاجتماعية التي يستندون إليها، ويظهر ذلك خاصة في اضطراب النخبة القائدة (لعبار، شامخ، الأمير زناد) وهي تبحث عن ظهير وسط أمواج الخيانة والتخذيل، كانت أم العيل الطريدة بأساسها العلمي والديني المتين والخايب المنبوذ، يمثلان نقطة الارتكاز في العمل والموقف الحازم بوجه ظاهرة الاستعلاء الجديد. فكثير من أبناء القبائل مثل (أولاد لمدك) اعتبر الاستعمار قدراً لا فكاك منه فعجلوا بالاستجابة لخططه التي اتجهت نحو.. "تعزيز العلاقات ببعض القبائل ذات القوة والنفوذ، وكان الكثير من زعماء القبائل مستعدا لتقديم فروض الولاء والطاعة مقابل تعزيز مكانته الاجتماعية. التحق أغلب فرسان أولاد لمدك بالجيش الفرنسي، وبين عشية وضحاها باتوا من أقوى القبائل، فما تلقوه من مال وسلاح وحظوة لدى المستعمر، أمال كفة القوة باتجاههم."
بينما تهيأ الأمير زناد وهو يصف الحال بعبارته: "أعداؤنا باتوا أكثر قوة من ذي قبل، وأصبحوا يشكلون تهديدا حقيقيا لوجودنا، ولدينا خياران لا ثالث لهما: إما أن ندخل في حلف مع الفرنسيين، لنضمن عدم وقوفهم ضدنا في مواجهة أولاد لمدك. أو أن نواجه أعظم قوتين في المنطقة. فماذا ترون؟".
ومع تطور الصراع تتكامل بنية العمل بتمازج الخيال والواقع في لوحة مكبرة تعكس التحديات التي عاشها الشعب بنسيجه المتناقض في مواجهة الظاهرة الاستعمارية.
ويتقاطع هذا التمازج بين الخيال والواقع مع العديد من الأعمال الأدبية العالمية التي تناولت موضوع النضال البشري. ومن خلال التصوير الفني للشخصيات، تتكشف الديناميكيات القوية للغزو والمقاومة، وتكشف عن تزامن دقيق بين دفاع الأغلبية الحذر ورفض الأبطال الشجاع. بالإضافة إلى ذلك، يستخدم السرد المفاهيم المتداخلة للقبول والتعايش، ليلقي الضوء على العلاقات المتداخلة بين الخونة والمتعاونين والمستفيدين والأقوياء. تتحدى هذه المواقف المتعددة الأوجه التسلسل الهرمي المجتمعي الراسخ، حيث يواجه الأبطال الشجعان أقدارهم الباسلة وهم يحملون شارات الطبقات المهمشة والكادحة، في مواجهة استخذاء أحفاد النخبة، الذين يستخدمون بمكر الازدواجية والخيانة دون مراعاة للأخلاق.
ومن خلال هذا النهج الجذاب، تنضح الرواية بطابع ثوري مدوٍ، وتثبت نفسها بقوة كجزء لا يتجزأ من تقليد أدبي أوسع نطاقًا يتصدى بلا خوف للتشوهات الثقافية والاجتماعية التي ولَّدتها حقبة الاستعمار المظلمة وأتباعه المخلصين. وعند الفحص الدقيق للتوزيع الماهر للشخصيات داخل النسيج المتداخل للسرد، يبرز تعليق اجتماعي استفزازي وجريء، يضفي على هذه التحفة الأدبية جوهرًا جريئًا فتتكامل لدينا المرافعة الاجتماعية الباهظة التكلفة التي يقدمها هذا العمل بجرأة متناهية.
الأبعاد النفسية في بناء الشخصيات:
نحن الآن أمام بيئة تضج بالحيوية والتباين، يظهر ذلك في خارطة بناء الشخصيات حيث تمثل شخصية الذيب، رمزًا ومفهومًا للنضال من أجل البقاء وصراع الهوية، باعتباره الشخصية المحورية التي تدور حولها معظم أحداث الرواية. وتشمل بعض الشخصيات الأخرى التي تتفاعل مع الذيب في سياق القصص الجانبية والمواقف التي تسلط الضوء على تجربة الشعب الموريتاني وتاريخ الصراع مع القوى الأجنبية.
تظهر شخصيات العمل تركيزاً على البعد النفسي للهويات الذاتية للشخصيات؛ حيث يشكل هذا التشابك بين صراعات الذات وصراعات الهوية الوطنية في قبالة المواجهة غير المتكافئة مع الاستعمار وحلفائه خيطاً متماسكاً على مدار العمل. ويبدو أن أعلى درجات الشدة والاضطراب تظهر في شخصية البطل (الذيب) المحاط في مخيلة الجمهور بهالة أسطورية كبطل ملحمي، هو نفسه أيضاً (الخايب)، وهو الوصف الذي طغى على اسمه الحقيقي (علي). والمفارقة أن والده هو الذي أطلق عليه هذا الاسم، كان يتمنى لابنه أن يواصل نضاله ويصبح "امعلم" ماهرا بمهنة الحدادة التي ظلّ آباؤه وأجداده يمارسونها على مر التاريخ، لكنه خيّب أمل والده واختار طريق العلم والمحظرة. ولم يتبقَّ من شخصية (علي) سوى علاقة قديمة مع اثنين من أبناء (الجعبة)، شامخ والفردي، وهي علاقة ستؤدي دوراً حاسماً في الوصول إلى ذروة الصراع في بناء هذه الرواية. إن رعاية لعبار للخايب كافية لإخفاء كل الملامح القديمة لشخصية الخايب، وهي تمهد لظهور شخصية جديدة، تؤهله لموقفه المبدئي من التعامل مع الدخلاء، وتمنح المشروعية لتساؤلات نفسه الأبية:
"لطالما تساءل في نفسه.. أي شيء أحرى بأن يكون مسبة تتوارثها الأجيال، أهو دعم هؤلاء للمستعمر وقطعهم للطريق، ومتاجرة أولئك بالدين، أم عمل آبائنا في صنع الألواح والسلاح والأكل من عرق الجبين؟ ألا يستحق ما فعلوه من فظائع أن نتوقف عنده لحظة، ويعدّون ما بذلناه من جهد في خدمتهم عارا نتوارثه خلفا عن سلف؟"
لعبار الشخصية الرئيسية الثانية تمثل القوة والقيادة، فارس يتمتع بحكمة ومعرفة عميقة في الفقه والسلاح والشعر؛ عمله في الرواية أنه يحرك الأدوار التي تصنع المشهد الكلي غير أن الأشياء في مساره لا تكتمل، يبلغ من الحب غايته، فيحرم من الإنجاب، ومن العلم مستوى بعيداً ولا ينال المشيخة، ومن الشجاعة والبسالة ذروتها، ويبقى كائناً مستقلاً يقدم خدماته من الحكمة والرأي السديد للقادة والزعماء وكل ما يصب في ميزان مشيخة القبيلة وكبراؤها.
وكان لعبار يرى في ابنه الذي لم ينجبه (علي / الخايب / الذيب)، فرصةً لتكميل تلك النواقص، فأراد أن يصنع منه عالماً وفارساً وقائداً، فراقبه في تطوره ليشاهد كيف يستكمل الفتى مخايل النبوغ والفروسية والقيادة، فشب على مهارة في الرماية والفروسية، ونبوغ في العلم والمعرفة لا يسبقه فيها إلا لعبار نفسه تشكل تطورات الخايب الثلاثة جزءاً كبيراً من تطور الرواية.
ويتجسد العنصر الأنثوي في الرواية في ثلاث شخصيات: العزة، ومريم، وأم العيل. الأولى زوجة لعبار، وتظهر في كثير من لحظات الرواية، تعكس الهموم والمخاوف التي تصاحبها. أما مريم فهي الفتاة التي أحبها الخايب، ومحور العديد من التفاعلات العاطفية في الرواية. أما أم العيل فتأتي كشخصية ثانوية مهمة سنعود إليها لاحقاً.
بقي من أبطال العمل الأمير زناد زعيم القبيلة ويمثل شخصية ذات حكمة ودهاء سياسي كبير، يسعى لحماية قبيلته من الفرنسيين.. أما شامخ فشخصية مضطربة تربطه هو والفردي ذكريات طفولة وصبا مع الخايب انتهت بتآمرهما عليه.
نعود لأهم الشخصيات الثانوية وهما أم العيّل، والفردي، أما أم العيل فهي امرأة ذات علم عميق وتعليمها يشمل الفقه والأدب العربي والشعر، ولعبار يرسل الخايب للتعلم منها، وقيمتها أنها تنتمي إلى قبائل الزوايا، لكنها تمردت مرتين على تقاليد القبيلة.. أولاً حين قامت بتدريس إحدى الإماء، مما تسبب في طردها، وتمردها الثاني بإصدارها فتوى ضد المستعمر ومساندتها للمقاومة، مما انتهى باغتيالها الذي أصبح مدخلا للخايب إلى عالم المقاومة.
على عكس "أم العيل" التي كانت قوية وثابتة في مواقفها، يظهر "الفردي" كشخصية أكثر هشاشة وتردداً، تصرفاته غير محسومة، ويبدو وكأنه يتحرك بين الولاءات المختلفة دون حسم قراراته، مما يجعله يعكس شخصية الإنسان الذي لا يجد لنفسه مكانًا في عالم تتغير قيمه بسرعة. وهو يمثل شخصية مضطربة تعبر عن التمرد، التناقض، والخيانة، وفي الوقت ذاته يعكس التحولات الاجتماعية والسياسية التي مر بها المجتمع الموريتاني في زمن الاستعمار. بهذا كان "الفردي" مؤهل نفسياً للقيام بدوره في الرواية، حيث يمثل شخصية متمردة على القيم التقليدية، يتورط في وشاية بالذيب لدى السلطات الاستعمارية وتجسيد دور الخيانة، وهذا يكشف عن ضعف الولاءات الشخصية والتغيرات التي أحدثها الاستعمار في بنية المجتمع وتماسكه.
الرمز والخيال:
والعمل على صراحته مفعم بالإحالات الرمزية سواء أسماء الشخوص والأماكن، أو السلوكيات والمواقف وحتى رمزية ارتداء الأبطال لجلود الحيوانات المفترسة، التي تسهم في خلق معانٍ عميقة تربط بين القوة والتحدي، ويعكس صراع الإنسان في سبيل الحفاظ على هويته وثقافته. وهي رمزية تكثّف النص باستدعائها لمخزونات في مخيلة القارئ شكلتها قراءات في التراث الأدبي، أو مشاهدات في السينما والدراما عالمية أحياناً وعربية أحيانا أخرى؛ حيث لا يغيب مشهد ارتداء الأبطال لجلود الحيوانات المفترسة كعلامة على الشجاعة والقوة، كما في أساطير الفايكنج وأدب الهنود الحمر، ليستدعي من السينما العالمية شخصية وليم واللاس في فيلم (Braveheart) قلب شجاع، وشخصيات من دراما غضب الصحراء لأيمن حقي، أو الجوارح لنجدت أنزور، حيث يبرز التشابه بين (الذيب) والبطل وليم واللاس الذي ألهب حماس القبائل الاسكتلندية في حربها مع الجيوش الانجليزية ليلقى نفس المصير بوشاية من أقرب الناس إليه، هذا يكشف عن اتساع موارد الاستلهام والمعين الذي يمتاحه الكاتب وطبيعة الثقافة التي كونت ملكته السردية.
تعكس رواية "الذيب" محاور صراع مزدوج بين مكونات الذات داخل المجتمع الواحد، والآخر الذي يتم تعريفه ثقافيا بعبارة (نصارى) بدلاً عن دخلاء، غزاة، مستعمرون.. مما يظهر عمق الحساسية الثقافية في هذا النوع من المجتمعات. تستفيد الرواية من التقاليد الأدبية التي سبقتها، معيدة تشكيل الموضوعات وفقًا للواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع الموريتاني. وهكذا، تصبح "الذيب" أكثر من مجرد رواية، بل علامة على النضال المستمر ضد الغزو الثقافي والوجودي، مما يضعها في إطار أوسع من الأدب العالمي الذي يعكس صراع الهوية والنضال من أجل البقاء.
وتنتهي رواية "الذيب" بتصوير واقعي معقد يتناول صراعات الهوية والانتماء، حيث يتجلى تأثير الخيانة وفقدان الأمل في شخصيات الرواية. يتعرض الذيب، الذي يُمثل رمز الشجاعة والتمرد، للخذلان من قبل المقربين له، مما يعكس الضغوط النفسية والاجتماعية التي يعيشها الأفراد في ظل الأزمات.
في نهاية الرواية، يتضح أن الذيب ليس مجرد شخصية محورية، بل هو تجسيد للصراع الأعمق بين القيم التقليدية والحديثة، بين الاستقلالية، والاعتماد على الآخر.
يؤكد ذلك كيف يمكن للتاريخ والأحداث أن تُشكل مصير الأفراد والمجتمعات. وبينما يواجه (الذيب) شهادته الباذخة يلقى (الخايب) نهايته المأساوية، يموت غير مأسوف عليه بين أبناء العشيرة التي تربى فيها حيث.. " يكون التسليم بالقدر في أعلى درجاته عندما يكون الميت من فئة تستقر في أدنى سلم المجتمع."
مع ذلك يرجو الراوي أن تظل تلك الرسالة التي مات من أجلها البطل ذو الأسماء الثلاثة (علي/ الخايب / الذيب) حية في قلوب أولئك الذين يواصلون بطرق جديدة الكفاح الاجتماعي والثقافي والسياسي من أجل هوية وطنية تحفظ الحقوق في الكرامة الإنسانية للجميع دون تمييز.
الدكتور محمد بابكر العوض
- نائب رئيس جامعة الجزيرة
- عميد معهد إسلام المعرفة سابقا