أبعاد وتوجهات استراتيجية إنعاش الصناعة في موريتانيا
يعتمد النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية بشكل كبير على الاستثمارات في البنية التحتية والتنمية الصناعية المستدامة والتقدم التكنولوجي. وأمام المشهد الاقتصادي العالمي سريع التغير واتساع فجوة التفاوت، يجب أن يشمل النمو المستدام التصنيع الذي يتيح الفرص أمام جميع الناس في المقام الأول، وثانيا، مدعوما بالابتكار والبنية التحتية القادرة على الصمود وتعتمد معظم الدّول على مقوّماتٍ تملكها أو تقوم باستيرادها من أجل تطوير الصناعة وتنميتها، والتي تختلف مُسمّياتُها وفئاتها من دولة لأخرى ومن نظام لآخر، ومن أهم هذه المقومات هي: الموقع، الطاقة، اليد العاملة، رأس المال، الأسواق، النقل والمواصلات، موارد المياه.
يتضح جليا اهتمام الحكومة بالتصنيع، وذلك ما ورد في إعلان السياسة العامة للحكومة، حيث ترى أنه في مجال الصناعة سيتم التركيز على بناء قاعدة صناعية تسهم في الرفع من القيمة المضافة لاستغلال مواردنا الطبيعية وفي تصحيح ميزاننا التجاري من خلال توطين صناعات تحويلية متنوعة توفر بدائل لبعض السلع المستوردة خصوصا تلك التي لا تتطلب تكنولوجيات معقدة أو رؤوس أموال كبيرة.
وفي هذا الإطار ستعمل الحكومة على إنشاء مناطق صناعية مجهزة بالخدمات الأساسية والمساعدة في تعبئة خطوط التمويل وتكوين الكفاءات الصناعية واليد العاملة.
ويأتي الاهتمام بالصناعة كون بلادنا تعتمد على قطاع الصناعات الاستخراجية المعدنية، الذي يمثل نسبة 30% من الناتج الداخلي الخام، ويبلغ عدد العاملين في شركتي الحديد والذهب حوالي 16 ألف عامل، وخلال الربع الأخير من 2023 بلغت قيمة الصادرات الموريتانية من الصناعات الاستخراجية الحديد والذهب 31.77 مليار أوقية، أي نسبة 78% من إجمالي صادرات البلد.
وقد نجم عن الإصلاحات التي قامت بها الحكومة إلى رفع مؤشر الإنتاج الصناعي بنسبة 7.3% في 2023، مقارنة بمستواه سنة 2022. يواجه القطاع الصناعي اليوم عددا من التحديات المستجدة بفعل الأوضاع الإقليمية والاضطرابات الجيوسياسية وأخرى نتجت عن تراكم بعض الإجراءات والسياسات غير الملائمة، إلا أن الوعي بالدور الريادي الذي يؤديه القطاع الصناعي في تحفيز النمو وتوليد فرص العمل يتطلب العمل على تذليل ومواجهة العقبات التي تحد من إمكانيات توسعه وتوفير الإمكانات اللازمة لتعزيز تنافسيته.
ومن أهم التحديات التي تواجه القطاع الصناعي تبرز كلف الإنتاج بما في ذلك كلفة الطاقة والنقل وبعض مدخلات الإنتاج التي ما زالت تخضع للضرائب والرسوم، يضاف لذلك كلفة التمويل وإمكانيات توفيره، كما تعاني بعض الصناعات من عدم توفر الكفاءات والكوادر المهنية، ولا بد هنا أن نشير إلى المنافسة غير العادلة التي تتعرض لها المنتجات الموريتانية من بعض الدول المجاورة نتيجة لانخفاض أسعار الطاقة أو لتبني معوقات إجرائية وفنية تؤثر على انسياب السلع الموريتانية لتلك الأسواق، وينبغي أن نشير إلى أن التغلب على هذه المعوقات يتطلب تعاون مختلف الجهات ذات العلاقة، فمن جانب لا بد من الاستمرار في تحسين بيئة الأعمال وتقليص العوائق البيروقراطية، والاهتمام بتحسين نوعية وجودة الاستثمارات وقدرتها على المنافسة وتعزيز الاهتمام بالبحث والتطوير والابتكار، وزيادة حصة المنتج الموريتاني في السوق المحلي، ومواصلة تنمية الصادرات عبر البرامج التحفيزية والمشاركة في المعارض الخارجية وفتح أسواق جديدة، كما أن رؤية التحديث الاقتصادي تتضمن العديد من المبادرات التي تتيح جذب مزيد من الاستثمارات وزيادة الصادرات وتوليد فرص عمل إضافية وصولا إلى تحسين مستوى معيشة المواطنين، والحكومة اليوم أمام مهمة مفصلية تتمثل في مواصلة ترجمة هذه الأولويات والتوجهات التي وردت في إعلان السياسة العامة للحكومة وأن تتخذ إجراءات وسياسات واضحة تتيح تحقيق الأهداف والتطلعات، مع الحرص على تكامل السياسات الاقتصادية المالية والنقدية والاستثمارية والتجارية لتصب في مصلحة تنمية الاقتصاد الوطني بمختلف قطاعاته وفق نموذج تكاملي يستند إلى شراكة حقيقية وفاعلة بين القطاعين العام والخاص.