حول نقاش بيان السياسة العامة للحكومة
تابعت باهتمام مثل غيري من المواطنين خاصة منهم المهتمين بالشأن العام نقاش بيان السياسة العامة للحكومة الذي دار خلال الجلسة التي شهدها البرلمان تمهيدا للتصويت على مسألة الثقة، وقد خرجت من متابعتي لهذا النقاش بالملاحظات التالية:
أولا: في جانب الشكل:
1. استهانة كل من الجانبين بالآخر وبالنقاش:
على الرغم من أن النقاش كان يجب أن تطغى عليه الجدية بشكل كبير، فالمناسبة هي نقاش بيان السياسة العامة للحكومة في بلد يواجه تحديات كبرى بعضها سيترتب عليه بقاؤه من عدمه، وبعضها سيترتب عليه نجاح سياساته التنموية، والمجتمعون داخل قبة البرلمان هم السلطتان الأولى والثانية؛ أي السلطة التنفيذية والتشريعية اللتان يقع على عاتقهما العبء الأكبر في هذين الميدانين، والطلب الاجتماعي من قبل المواطن يتزايد يوما بعد يوم، والزمان يتعلق بظرف حساس، خاصة أنه يأتي في بداية آخر مأمورية للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وهي المأمورية التي من المفترض أن يتم استثمارها في معالجة العديد من الاختلالات والثغرات التي عرفها العمل الحكومي خلال المأمورية الأولى، ورفع المظالم الكثيرة التي تعاني منها العديد من فئات المواطنين، فإن المتابع سيلاحظ بوضوح أن أيا من الطرفين اللذين يجري بينها النقاش لم يكن في الغالب ينصت للآخر، فالوزراء بدو في غالبهم غير آبهين لمداخلات البرلمان ولا منصتين لها، فانشغل بعضهم في حوارات جانبية باستثناء الوزير الأول وقلة قليلة من وزراء الحكومة المرافقين له، وربما يعود سبب الاستهانة التي أبداها أولئك الوزراء إلى كونهم يدركون أن نتيجة ذلك النقاش محسومة سلفا لصالحهم، وأن الحكومة في النهاية ستنال الثقة وبأغلبية ساحقة، أما الطرف الآخر أي النواب فقد بدا أن أغلبيتهم الساحقة حضرت فقط من باب تأدية الواجب، فانشغلت الأغلبية الساحقة منهم بهواتفها أو بالنقاشات الجانبية، بل وصل الأمر ببعضهم إلى استغلال الفرصة لأخذ قسط من النوم.
2. عدم التناسب والتكافؤ في القوة بين الطرفين:
بدا أداء البرلمانين في أغلبيتهم الساحقة مزريا، ويدعو للشفقة عليهم وعلى البلد الذي انتخبهم شعبه وأبان عن تدني مستويات أغلبهم وجعلهم لأبجديات العمل البرلماني وضحالة مستواهم الثقافي والمعرفي مع بعض الاستثناءات القليلة التي تتعلق بنواب أغلبهم من المعارضة كانت مداخلاتهم على مستوى عال، وحزت في المفصل وأبانت عن قدرة كبيرة في المحاججة والإقناع، وفي الجانب الآخر فإن السلطة التنفيذية الممثلة في هذا النقاش من خلال الوزير الأول قد تمكنت من أن تستفيد من الضعف الكبير الذي تعرفه السلطة التشريعية الحالية في السيطرة على المشهد بالكامل والقيام باستعراض قوي أبان من خلاله عن امتلاكه لمهارة خطابية كبيرة وتسلحه المعلومات الكافية عن مختلف القطاعات الوزارية للحكومة التي يدير وينسق عملها، كما حاول أن يوصل رسالة يدحض من خلالها الأقاويل المتعلقة بوجود صراع خفي بين بعض أطرافها وذلك من خلال مبالغته في امتداح عمل بعض القطاعات السيادية التي يقال على نطاق واسع أنها غير تابعة له، وأنه لا يمتلك أي سلطة على من يديرونها، ولولا ميل الوزير الأول المبالغ فيه إلى تقديم طرح تبريري لأسباب الوضعية الصعبة التي تعيشها بلادنا وتدني الأحوال المعيشية والقطاعات الخدمية والتعثر الذي تعرفه سياساتنا العمومية وهو الأمر الذي أبعد بعض الحجج التي قدمها عن الواقعية وتجاهله الرد على بعض النقاط والملاحظات المهمة التي قدمت له مثل تلك المتعلقة بتلاشي الطبقة الوسطى، والقمع الذي حصل للمتظاهرين خلال الاحتجاجات والمظاهرات التي تلت الانتخابات السابقة، والوضعية بالغة السوء للأطباء المقيمين والمعلمين والأساتذة، والوضعية المزرية لأساتذة التعليم العالي المتعاونين، لكانت ردوده في مجملها غاية في الإقناع والموضوعية.
3. الوضعية المقلقة للبلد:
من يتابع مجمل مجريات النقاش الذي دار أمس في أروقة البرلمان لا بد من أن ينتابه قلق بالغ على الوضعية المزرية التي وصل إليها، والتي يبدو أنها محل اجماع من الجميع، فالبرلمانيون بمختلف أطيافهم موالاة ومعارضة لم يجمعوا على شيء إجماعهم على تردي الخدمات وفشل السياسات وتعثر السياسات والخطط التنموية التي اتبعت في مختلف الميادين، والوزير الأول اعترف بشكل صريح أحيانا وضمني أحيانا أخرى مع النواب في توصيف الوضعية وزاد عليهم بتبنيه أحيانا لخطاب متشائم يحيل على انعدام الحيلة تجاه بعض المشكلات وعدم إمكانية التغلب عليها، وبدا ذلك واضحا في حديثه خاصة عن مشكلتي البطالة ونقص المياه.
ثانيا: في جانب المضمون:
تحدث بيان السياسة العامة للحكومة عن جملة من التحديات المهمة بالتأكيد، لكن من الضروري الانتباه إلى أن هناك جملة من التحديات التي لا تقل خطورة أغفل البيان ذكرها مع العلم أنها من الأهمية بحيث يجب أن تكون في أولوية وصلب السياسة العامة للحكومة خلال هذا العام والأعوام القادمة، أذكر منها التالي:
1. التحدي البيئي والإيكولوجي:
من الغريب حقا أن يغيب أي ذكر لهذا التحدي الوجودي المهم ضمن التحديات التي تضمنها بيان السياسة العامة للحكومة، أما الأغرب فهو أن لا يستدرك هذا العدد المعتبر ما شاء الله من النواب على غيابه، باستثناء حديث خجول وعلى عجل عنه ضمن مداخلة أو اثنتين من مداخلات النواب، علما بأن بلادنا تتهددها أخطار إيكولوجية وبيئية عديدة، فمن جهة فإن هناك خطر التصحر الذي أصبح يهدد وجودنا، بقوة فأكثر من 70% من مساحة بلادنا متصحرة أو مهددة بالتصحر، وتفيد المعطيات بهذا الخصوص أن الصحراء تتقدم بمعدل 6، 8 كلم سنويا، كما يختفي سنويا 4000 هكتار من الغابات، وقد ساهم ذلك للأسف الشديد في ظل تراجع الأمطار وندرتها في بلادنا، إلى تقلص في مخزوننا من المياه الجوفية، التي هي واحدة من المصادر الرئيسية للمياه في بلادنا، وتنضاف إلى مشكلات التصحر وزحف الرمال، والمناخ الصحراوي الجاف، مشكلات إيكولوجية وبيئية لا تقل خطورة من بينها أن أراضينا التي تفوق مساحتها المليون كيلومتر مربع هي في أغلبها عبارة عن صحراء قاحلة، وأراض غير صالحة للزراعة، هذا علاوة عن كون التدهور البيئي وتغير المناخ أصبحا يهددان استدامة المدينتين الساحليتين التين هما في غاية الأهمية ويتعلق الأمر بكل من نواكشوط عاصمتنا السياسية ونواذيبو عاصمتنا الاقتصادية، حيث إنهما مهددتان بدرجة كبيرة بأن تغمرهما المياه بشكل كامل، كما أن تهديد الفيضانات يظل قائما في كلتا المدينتين، هذا فضلا عن كون التلوث قد عم معظم المدن الكبيرة، ولا تقل المشكلات المتعلقة بالوسط الريفي سوء عن ما سبق، وفي مقدمتها انحسار الوسط الغابوي وانقراض أنواع مختلفة من الحيوانات خاصة المفترسة منها، وكذلك الطيور، هذا فضلا عن خطر العزلة الذي أصبح يطبق شيئا فشيئا على العديد من المقاطعات الداخلية في بلادنا مثل الطينطان وعدل بكرو على سبيل المثال، دون التطرق لمشكلات انبعاث الغازات السامة التي أصبحت مشكلة المشكلات في بلادنا، ولا لباقي المشكلات الأخرى التي تقل خطورة، إن هذه المعضلات جميعها حتما تجعل من هذا التحدي ذو الطبيعة الوجودية تحديا كبيرا و خطيرا يستحق أن يتم وضعه ضمن أولويات حكومتنا، وبالتالي فإننا ننتظر من حكومتنا في القريب العاجل أن تقوم بصياغة استراتيجية متكاملة للتعامل مع هذا التحدي والقيام بخطوات حاسمة بشأنه، فالكثير من البلدان التي تواجه هذا التحدي الإيكلوجي والبيئي قامت باتخاذ قرارات حاسمة مثل نقل عاصمتها إلى مكان آخر من الدولة مثل ما فعلت أندنوسيا، بل وصل الأمر ببعض تلك البلدان إلى عقد اجتماع لحكومتها تحت الماء من أجل لفت أنظار العالم لمعاناتها مثل ما فعلت المالديف التي قامت على مدى أشهر طوال بتدريب أعضاء حكومتها على الغوص وعقدت الحكومة بكامل أعضائها اجتماعا تحت الماء، بطبيعة الحال لا نطلب من حكومتنا أن تعقد اجتماعا تحت الماء، ولكن نطلب منها أن تفكر في حلول جذرية للمشكلات والمعضلات المرتبطة بالتحدي الإيكولوجي والبيئي، وأن تشرع في القيام بخطوات حاسمة بهذا الخصوص.
2. تحدي الهجرة غير النظامية:
على الرغم من أن ملف الهجرة غير النظامية قد أصبح يفرض نفسه شيئا فشيئا على أولويات السياسة العامة لبلادنا ليس فقط بسبب تعقيداته العديدة المرتبطة بتنوع التحديات التي يطرحها، والتي ليس أقلها أن بلادنا ما فتئت خلال السنوات الماضية تشهد سلسلة هجرات من إفريقيا جنوب الصحراء، يأتي بعضها بهدف الاستقرار وبعضها الآخر بهدف الانتقال إلى أوروبا، مما يجعل من وطننا بلد عبور من جهة واستقرار من جهة أخرى للمهاجرين غير النظاميين، وليس فقط بفعل بعض النزاعات والأزمات والتغييرات المناخية التي عرفتها منطقة غرب إفريقيا في السنوات الأخيرة، والتي زادت من سوء أوضاع السكان هناك ودفعتهم إلى الهجرة مما يزيد من الضغط على بلادنا فيما يتعلق بجهودها للتصدي لهذه الظاهرة، وإنما لأن بلادنا عرفت في الآونة الأخيرة سلسلة من الهجرات غير النظامية لشبابنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي هجرات تتضارب الإحصاءات بشأنها بين من يوصل عدد المهاجرين فيها إلى خمسين ألف مهاجر وبين من يعتبر أن الرقم هو ثلاثون ألفا ومن يتحدث عن أربعين ألفا أو عن أرقام أقل أو أكثر، بيد أن المؤكد هو أن عدد من هاجروا ضمن هذه الموجة من الهجرات كبير جدا، وأننا قد تحولنا إلى بلد مصدر للهجرة غير النظامية علاوة عن كوننا بلد عبور واستقرار أيضا، مما يطرح تحديات كبرى على بلادنا سواء فيما يتعلق بإقناع من تبقى من شبابنا بالعدول عن خوض هذه المغامرة وهو الأمر الذي لن يتم دون توفير فرص شغل لهم وإتاحة مختلف فرص المشاركة النشطة في الحياة العامة أمامهم عبر التمكين لهم سياسيا واقتصاديا فبالنتيجة الشباب هم عماد التنمية في أي بلد من البلدان ويستحيل تحقيقها والنجاح فيها دونهم، هذا علاوة عن باقي التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تطرحها ظاهرة الهجرة غير النظامية على بلادنا، وهو الأمر الذي يحتم التعامل مع هذا الملف على أنه يشكل واحدا من أخطر التحديات التي تواجه بلادنا، ويفرض تضمينه في صلب أولويات السياسة العامة للدولة وليس على هامشها وفي مساحة لا تتجاوز الأسطر، وعلى الرغم من كل ذلك فإن هذا التحدي الخطير لم يرد ضمن التحديات التي وردت في بيان السياسة العامة للحكومة كما أنه لم يطرح بالقدر الكافي ضمن تدخلات النواب، كما أن إجابات وردود معالي الوزير الأول حوله لم تتسم بالعمق المطلوب، ولم يتضح من خلالها ما إذا كانت الحكومة لديها رؤية واضحة للتعامل مع هذا التحدي الخطير.
كخلاصة، وبشكل عام، فإن بيان السياسة العامة للحكومة في مجمله كان جيدا، وإن كان يعوزه بعض التنظيم والدقة والتفصيل بشكل أكبر في بعض الجوانب، فالمشكلة كثيرا ما تكمن في التفاصيل، أما الخطوط العريضة للسياسات الحكومية والأهداف الكبرى فهي في الغالب محل اتفاق وإجماع من قبل الجميع، وعلى أي حال فإن مشكلة بلادنا الأزلية ليست في البرامج والتنظيرات، وإنما هي في التجسيد والتطبيق.
حفظ الله وطننا ووفق حكومتنا لما فيه الخير لبلادنا.