بلقيس المسومية

الأستاذ يحي بن بيبه

من ذا يصدق أن فتاة في الثلاثينات من عمرها تسافر على الحمير ، قبل مائة سنة، من ولاية لعصابة إلى تجكجة ل (الگيطنه) وإحضار فسائل نخيل،ولتكون صاحبة الرحلة الثانية من هذا النوع ،بعد رحلة مهندس زراعة النخيل في ولاية لعصابة، الطالب ولد عبدو الله، ‏الذي عاش عمرا عريضا، وإن لم يكن طويلا ، على لغة ابن سينا ؟

إنها المرأة الغريبة, صاحبة الإرادة الفولاذية، والطموح الجارف، رقية بنت محمد الامين الولي بن محمد سيبه المسومية، بلقيس كما كان شيخها الطالب بن عبدو الله يلقبها ، لصفاتها السابقة. 
‏ولدت رقية نحو سنة 1880 ميلادية ، ونشأت في حي  أولاد ألمين، الذي يقال إنه كان أكثر أحياء مسومة محاضر قرآنية. ‏ودرست القرآن الكريم وعلومه على والدها، بينما درست  العقيدة على الطالب بن عبدو الله.
‏وقد استفاد من معارفها هذه أبناؤها وأحفادها  الذين تولت تدريسهم بنفسها إلى جانب زوجها أحمد ولد المختار فال .
‏ولئن بدا نصيب صاحبتنا من المعارف غير مألوف  في أحياء أخرى، فإنه لم يكن كذلك في حي أولاد ألمين، وخاصة في أسرة  أهل كباد التي تنتمي إليها رقية، بل إن بعض  نساء الأسرة تجاوزن المساهمات العلمية إلى الأدب، 
فقد ذكر هارون بن الشيخ سيدي، في كتابه "الأخبار"، أن عمات محمد المصطفى ولد دداه، الشاعر الفذ المعروف ، كن يقرضن الشعر.
 ومحمد المصطفى هذا هو والد المناضل محمد ولد دداه، الذي قاد نضال معلمي العربية،المطالب بترسيخ اللغة العربية في ستينات القرن الماضي ، مما ألقى به في السجن. (رابط تدوينتتا عن محمد ولد دداه في أول تعليق).
ولا يهمنا هنا في هذا المقام الجانب العلمي في حياة رقية بنت الولي، بقدرما يهمنا تدشينها لزراعة النخيل  في وادى إريجي ، الذي يعتبر من أهم أودية النخيل في ولاية لعصابة، وهو ثاني وادى يعرف زراعة النخيل في المنطقة،  بعد "اچل" (تنگنّي) ، الذي كان أول وادي نخيل وضع  للناس في هذه الولاية، بعد أن أحضر له الطالب بن عبدو الله فسائل النخيل من تجگجة، وأحضر معه أسرة من قبيلة تيزگه ،ذات خبرة في زراعة النخيل ، وذلك عبر رحلته التاريخية الشاقة لهذا الغرض. (تدوينتنا عن الطالب في التعليق الثاني) 
ورواية أسبقية رقية في هذا الوادي (إريجي) محل إجماع في مجتمعها ، وقد أوردتها منظمة "آديكا (ADECA)  الغربية في وثيقة عن نشأة زراعة النخيل في المنطقة.
لكن فضول الباحث يدفعنا إلى التساؤل عن الدافع الذي لفت انتباه الطالب ورقية الى زراعة النخيل ، المجهولة تمامًا آنذاك في تلك المنطقة، وكيف عرفا أن هذين الواديين صالحان لها؟
لقد كان جد رقية ،الفقيه محمد سيبه ولد عيسى ولد كباد، الذي يسبق الطالب بجيل على الأقل، قد حفر عينا في تنگني، يقيم عليها بمحظرته في بعض الفترات، قبل أن يتوفى ويدفن هنالك .
و تقول إحدى الروايات المداولة في مجتمع أولاد ألمين أن فسائل نبتت من نوى التمر الذي كان يؤكل في مضارب حي المحظرة. وهي ظاهرة معروفة في مثل هذه الحالات.
فهل كانت هذه الفسائل التي نبتت من تلقاء نفسها هي التي أوحت للشاب الطموح ،الطالب، بصلاحية المكان لزراعة النخيل؟
ذلك سؤال يبدو منطقيًا ووجيها، لكنه ، في غياب أدلة قاطعة، يبقى مجرد افتراض ، وإن لم يخل من الإغراء.
وإذا ما تجاوزنا العامل الذي شجع هذا العالم الجليل، والزعيم السياسي على زراعة النخيل في اچل، فإن دافع بلقيسنا يبدو أوضح ، والجزم به أسهل ، والأخذ به أقل مخاطرة.
فهذه المرأة ذات الطموح الإستثنائي، قوية الصلة ببيت رائد زراعة النخيل في لعصابة، ليس لمجرد أن الرجل شيخها ،  بل لأنها أيضا كانت ترتبط بعلاقة صداقة استثنائية بزوجته رقيه بنت سيد أحمد لحبيب، وكانت كل منهما تسافر لزيارة الأخرى، وتقيم معها بعض الوقت.
ونحن نعتقد ، بقدر كبير  من الإطمئنان ، أن رقية، في إحدى زياراتها لصديقتها، رأت النخيل المزروع حديثا، وسمعت من شيخها عن رحلته، واستعلمت من أسرة تيزگة عن الظروف الملائمة لزراعة النخيل ، وهي ظروف تتوفر كلها ، بصورة مثالية ، في وادي إريجي، الذي اختارته لمغامرتها الجديدة ، خاصة خصوبة الأرض، وقرب المياه الجوفية، ودفء المكان ، الذي يوفره المرتفعان ، الجبلي والرملي ، المحيطان بالوادي، هذا بالإضافة إلى النبع الجاري (إريجي) عبر الوادي، من دون بذل أي مصدر طاقة.
هذه الشروط المثالية في إريجي تجعل من الصعب اعتبار اختيار رقية له مجرد صدفة ، من غير اعتماد على رأي من ذي علم وخبرة بهذا المجال المجهول تماما في المنطقة.
ومهما كان من أمر هذه الإفتراضات أو تلك، فالمقطوع به تاريخيا أن رقية رأت نفسها ندا لعظماء الرجال، فحسمت أمرها ، وأخذت حميرها__ إحداها تسمى الطاريه __، واثنين أو ثلاثة  من مواليها، ويممت شطر تجكجه ل (الگيطنه) و لجلب فسائل النخيل. 
ولعل يسر حال زوج بلقيس، أحمد ولد المختار فال ،الذي كان كثير الموالي والمواشي، ساهم في تمكنها من إتمام رحلتها. وهذه الرحلة تجعلنا نعتقد أن الفارق الزمني بينها وبين رحلة الطالب ليس كبيرا جدا، لأنه لو كان كبيرا لاستطاعت رقية الحصول على مبتغاها من (الگيطنه )من نخيل الطالب ، ولأمنت حاجتها من الفسائل ، من الدفعات الأولى من إنتاج نخيل الطالب من الفسائل، خاصة أن صلتها بالأسرة قوية.
 وليس غريبا أن لا تحمل رقية من تجكجة إلا القليل من الفسائل بحكم محدودية إمكاناتها في النقل، وطول مسافة الرحلة . 
كما أنه ليس غريبا أن تموت بعض هذه الفسائل في الطريق ، أو خلال الأسابيع الأولى لزراعتها، بسبب الأخطاء المصاحبة لانعدام الخبرة والمعرفة الفنية في التعامل معها.
 وهكذا لم يعش من نخيل رقية إلا ثلاث أو أربع، ما زال بعض الأفراد يحفظون أسماءها : سگاني _ گانب _وبنت أماسين .
والاسمان الأولان معروفان لدينا ، وهما من أسماء جياد النخيل في تنگني ، التي أحضرت من تجكجه.
وقد كانت هذه النخلات ، بعد سنوات من إثمارها ، و تحديها عاديات الزمن ، كافية ، مع تجربة نخيل تنكني، لإقناع الأسر الأولى من أولاد ألمين بالبدء في زراعة النخيل في وادي إريجي. 
وهذه الأسر الطليعية تعرف في أوساط ذلك المجتمع ب"أسر اشكاطه" ، ويقع نخيلها في قلب الوادي، إلى جانب نخلات رقيه، بحديقة أهل المختار فال .
بعد ذلك أقبل أولاد ألمين بقضهم وقضيضهم على زراعة النخيل بهذا الوادي، البالغ طوله نحو ثمانية كيلومترات ، حتى ضاق ببساتين النخيل البديعة. ثم انتشرت زراعة النخيل ،كالنار في الهشيم ، في أودية المنطقة الأخرى المجاورة : التقادتان وگرو .
 وقد ظلت رقية، بشخصيتها القيادية، تقوم بدور محوري في مجتمعها ،حتى وافتها المنية عن عمر مديد سنة 1971 ،حيث دفنت في وادي الروظه ، بالضواحي الشمالية الغربية لمدينة كيفة. 
فهل من الوفاء أن يجهل سكان ولاية لعصابة، وهم يستمتعون بثمار واحاتهم في موسم الگيطانه  الأخير ، من كان لها دور كبير في توطيد سنة زراعة النخيل ، التي سنها مهندس ذلك العصر ، مهندس الولاية الأول ، الطالب بن عبدو الله؟
نسأل الله أن يجازي عنا بالإحسان الطالب ورقيه، وكل مبدع اقتصادي يفتح للناس أبواب كسب جديدة، ليشهدوا منافع لهم .

 

 

9 September 2024