إبراهيم ياسين السهل الممتنع في جدليات اليسار والديمقراطية ...

أحيت أسرة ورفاق وزملاء القيادي السياسي اليساري والمؤرخ إبراهيم ياسين لقاء تأبينيا له بالدار البيضاء يوم 2 مارس الماضي بما يحمله هذا اليوم من رمزية تاريخية، وقدم خلال هذا اللقاء “كتاب الشهادات في حق الأستاذ إبراهيم ياسين”، وقد تضمن ما يزيد عن 70 شهادة في من أسماه اللقاء “حكيم اليسار”؛ فيما يلي الشهادة التي قدمها الصحافي محمد العوني رفيق الفقيد الكبير إبراهيم ياسين:

 

إبراهيم ياسين السهل الممتنع في جدليات اليسار والديمقراطية

تتعدد جدليات اليسار بتعدد أوجه الحياة ومنعرجاتها وثناياها وتضاريسها، وبتعدد جبهات السياسة وواجهاتها ومجالاتها وخفاياها ومناوراتها ومبادراتها وصراعاتها، وتتفاعل من جهة أخرى جدليات اليسار مع معادلات النضال من أجل الديمقراطية والتحديات التي تطرحها بصيغ متداخلة.

وبالتالي فتلك الجدليات والمعادلات ـ قد ـ لا تعد ولا تحصى. ومن ثمة صعوبة تحديد ولو بعضها وتقديمها هنا حسب أهميتها في قراءة مسار المناضل القيادي الفقيد إبراهيم ياسين؛ أما ترتيبها وقراءتها حسب أهميتها في تجربة أو تجارب اليسار فهي من المهام الجماعية التي ما أمس حاجة هذا اليسار إليها ـ اليوم قبل الغد ـ تفكيرا وممارسة.

 

وأقترح تجميع بعض من تلك الجدليات والمعادلات في أربع مجموعات:

جدليات الفرد والجماعة، الذاتي والموضوعي، الجسدي والروحي، حقوق العضوية وواجباتها، جدلية الالتزام المتجدد والعضوية الفاعلة، مسؤولية القيادة ولوازمها، الوعي واللاوعي، المثالي والمادي، روح الفلسفة وفلسفة الروح، الموازنة بين القول والفعل.

جدليات التنظيمي/ الحزبي والسياسي، مهام المناضل وتمفصلاتها مع أدوار الحزب والمجتمع والنخب، صناعة دينامية الجماعة بتفاعل مع حرية الإبداع والاجتهاد، تغيير التنظيم وتنظيم التغيير، النظرية والتطبيق، التخطيط والتفكير، البناء والتطوير، الإصلاح والتغيير، قيادة التغيير وتغيير القيادة، حزب المؤسسات وتدبير الاختلاف، استيعاب التراكم وجرأة التجديد، تقليص المسافة بين معطيات الواقع والتصورات عن الواقع، الاقتصاد في الخطاب والسخاء في الفعل وعقلنته، وجدلية سياسة الأخلاق وأخلاق السياسة.

جدليات العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة في السياسة بالمغرب والمؤطرة لحقولها، عوامل التغييروحاجياته ومراحله، الديمقراطية كاختيار وكثقافة وكممارسة، دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع، الفكر والممارسة، سياسة الممكن وممكنات التحول، الواقعية دون محافظة سلبية ولا “وقوعية “، الوطن والشعب واليسار والفعل والتغيير، وحدة الوطن ومقاومة الاستبداد ومحاربة الفساد، مقاومة تطرفات التفكير والفعل اليساريين، لاسيما منها اليقينية والتجريبية والسطحية والميكانيكية والتبريرية.

جدليات العلمي والسياسي، الاستقلالية الأكاديمية والتحكم السلطوي، السياسي والتاريخي، المنهجية والاجتهاد، الأطروحة والتركيب والتراكم، وجدلية التحليل الملموس للواقع الملموس والمحسوس.

هذه نماذج لجدليات خاضها أو فعل فيها الراحل إبراهيم ياسين، مما يعني أن هذا القائد السياسي اليساري والأستاذ الباحث والمؤرخ والإنسان الفاعل والمجتهد يستحيل على أي واحدة أو واحد منا أن يحيط بزخم عطائه، وبكافة مقومات شخصيته المتعددة المدارات والإنجازات ومساراته ومسيرته المتنوعة الجبهات.

فحياته ـ ككل الكبارـ كانت ولا تزال من خلال آثاره ومأثوراته كتابا مفتوحا، شاسعا بلا حدود، غير قابل للقبض على كافة تفاصيل سطوره وما بين سطوره.

ولذلك سأختار ثلاث جدليات ومعادلات من هاته المجموعات، في دعوة لروح الرفيق الفقيد الكبير إبراهيم ياسين لعلها ترفرف على تفكيرنا وتكون نجمة مضيئة للفعل السياسي اليساري.

 

جدليات الفرد والجماعة والذاتي والموضوعي

اشتغل الفقيد ياسين ـ دون إبراز ذلك كما هي عادته ـ على معرفة حدود الفرد وفعله وفعاليته مهما كان بعد نظره وديناميته الحاذقة وتفكيره الثاقب، وتمرس على إدراك حدود الذات وعدم تمكنها في أي حال من الأحوال من تجاوز قدراتها؛ وفي نفس الوقت عمل ياسين على استخراج أقصى ما يمكن من الذات/ ذاته، لاسيما وأن كل مساره التزام بالمسؤولية وعمل متكامل الأركان ومتواصل الانتظام من أجل الفعل والمهام.

ورغم تمكن أمراض مزمنة من جسده، خلال فترة المهام الأخيرة وابتعاده عن مواقع المسؤولية، بما فيها حتى العضوية بالمجلس الوطني للحزب، فقد كان حريصا ـ وهو يقاوم بصمود تلك الأمراض كما يقاوم دائما ـ على استخراج ما يمكن من ذاته لصالح القضايا المرتبطة بهذه المهام، وقد اتضح للكثيرين داخل الحزب وخارجه ذلك، خاصة خلال حركة 20 فبراير، ودعم حراك الريف، ودون التخلي عن إدمانه المستمر على الابتعاد عن الأضواء.

لم يكن ممارسا بارعا لنكران الذات فقط، بل لو كان لنكران الذات اسم أو لقب آخر لكان هو إبراهيم ياسين، من ثمة تواضعه الجم والصادق والفريد، الناجم عن اجتثاثه لجذور الذاتية وتفكيكه لأي “اعتداد بالنفس”، لعله كان كل يوم يكسر بذور ونوازع النرجسية على مرايا الواقعية والعقلانية والديمقراطية والجدية.

فرض معايير صارمة على نفسه، مع الوعي بأنه لا يمكن أن يطبقها على الآخرين خشية أن يكون ذلك إسقاطا منه عليهم، فالمسألة تحتاج لوقت وجهد وقطائع لتتحقق لدى من يحب، وضمنهم رفيقاته ورفاقه. فهل هناك واقعية أكبر من هذه؟ وهل هناك ممارسة لجدلية الذات والجماعة مثل هاته؟

كان يعطي بدون حساب أو اقتصاد من جسده، من جهده، من فكره، من عقله، من روحه ؛ وروحه كانت شاسعة رائعة وفارعة، وفكره كان شاهقا، ناطقا، سائقا، فائقا، لائقا وبريقا بارقا، وعقله كان منيرا، سميرا، ساهرا، غامرا وعامرا.

انطلاقا من هذا “الذاتي والجماعي” ربط علاقات صداقة قوية مع العديد من رفاقه. فالرفاقية العميقة هي أكثر من صداقة رائقة وصادقة، وحسب ما يبدو فذلك ما يفسر أن صداقات ياسين خارج الرفاق والزملاء ربما نادرة. فقد كان صديقا خفيف الظل للكثير ممن يناضل معهم أو يعمل معهم، وهاته جدلية أخرى من جدليات ياسين. الرفقة والصداقة بكل ما تعنيه الأولى من واجبات والثانية من قرب واهتمام بالاجتماعي وتنفيس عن متاعب العمل والإجهاد وضيق النفس، سواء كانت مرتبطة بثقل الواقع وصعوباته الكبرى أو بغيره؛ إنما دون أن تكون على حساب أشخاص آخرين.

وتوحي سيرته ومسيرته لكل متتبع لبيداغوجيته السلوكية ومسالك بيداغوجيته تكثيفها لخلاصة مفادها: لئن كنت لطيفا خفيفا، رائقا، مبتسم الوجه والشفاه، دافئ العينين، بشوش المحيا، باسم الروح، فلا تكن “لينا فتعصر ولا صلبا فتكسر”.

أما صعوبات الطريق السياسي، كما الانتصارات والعثرات والخسارات بأبعادها وأسسها النضالية وبعمقيها السياسي والفكري فأجدر بها ـ حسب منطق إبراهيم ياسين ـ أن تخلصنا من الأوهام ومن النقص في الحساب والخصاص في التقدير، وتذكرنا وتجدد تنبيهنا لفساد فكرة ـ قبل نزوع ـ “القائد الملهم”.

 

لا أعرف كثيرا من المناضلين والقياديين السياسيين الذين يعرض عليهم موقع الأمانة العامة فيحجمون، بل كان أكثر من عرض كان “تحميلا للواجب، وللمسؤولية”، إلا أنه لم يكن يحتاج ليثبت تحليه بكافة المسؤوليات فسيرته شاهدة ورائدة، ولعله قرر دخول أول مكتب سياسي منبثق عن أول مجلس وطني لحزب اليسار الاشتراكي الموحد، فقط، ليقترح صيغة “أمانة عامة جماعية” لاختبار مدى استيعاب ضرورة وحاجة اليسار والحزب للقيادة الجماعية التي لا يمكن أن يعوضها أي قيادي أو زعيم مهما كان الإجماع حوله ومهما كان وزنه وحذاقته، علما أن إبراهيم ياسين كان أحد كبار مهندسي بناء الحزب الموحد وتوحيده وتجميع مكوناته، إن لم يكن أكبر مهندسيه، وكان يعرف أن هناك نوعا من الطلب السري على “تعليقه الجرس” قبل المطلب المعمم والعام في هذا الاتجاه، بينما هو قرر منذ نعومة نضاله ألا “يعتلي” أبدا صفة الزعيم أو موقع “القائد العام”.

وفيما بعد سيبتعد عن “المركز” المتحصن في البيضاء والرباط، وسيضطر للانتقال مهنيا إلى مراكش، رغم كلفة ذلك على المستوى المادي والأسري، ليتأكد الجميع من مسافاته وجذوة قراره بألا يقع في “سياسة المركز” ولا يستمر في “مركز السياسة”؛ علما أنه ناضل دوما على أن تكون المواطنة والمواطن والمناضلة والمناضل هما مركز القرار، والجهوية “التقدمية” إحدى أدوات الانتقال الديمقراطي من جهة، والديمقراطية الداخلية للحزب من جهة أخرى.

يقال: من سبق فعله قوله فقد حقق صدقه، ومع ياسين يمكن القول: من تحقق صدقه فقد رحُبت به سبل الالتزام وانحنت له جبال الاحترام واتسعت له ينابيع الوئام.

 

جدليات قيادة التغيير وتغيير القيادة

أبدع ياسين في قيادة التغيير كمشروع وبرنامج بواسطة الجدليات إياها، وبرع في مقترحات تغيير القيادة ليس كأناس، بل كفكروتفكير وتأمل وتمحيص وكعمل ومسؤولية وتكليف، مما كان يفرض عليه في الكثير من الأحيان إكراهات ومخيال الإقدام وتحديات وفن الإحجام.

كانت مهامه ـ سواء اقترحها أو اقترحت عليه ـ مفصلية وذات أهمية في الأغلب، علما أنه لم يكن ليتوانى عن “المهام الصغيرة واليومية”، إذ انخرط بقوة على سبيل المثال في:

– بناء اليسار الجديد وفي مواجهة محاولة الاجتثاث ومقاومة القمع المسلطين على تنظيماته.

– المراجعة النقدية للفكر اليساري ولممارساته.

– الانتقال من العمل السري باكراهاته وتعقيداته الى النضال العلني بسلبياته وإيجابياته.

– تأهيل العمل الحقوقي نحو ما يكفي من الاستقلالية والديمقراطية والتعددية.

– غرس العمل النقابي في التعليم العالي وتفعيله.

– بناء جبهة المعارضة الوطنية، لاسيما عبر الكتلة الديمقراطية.

– تطوير أداء إعلام منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، لاسيما جريدة أنوال.

– التأطير الفكري للنقاش الداخلي للمنظمة ومع محيطها بشأن “الإصلاح الديمقراطي” وسبله وآفاقه.

– دعم القضايا العربية والعالمية العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

– توسيع وتقوية المنظمة بعد انقسام 1996.

– تأهيل وعقلنة العمل التنظيمي للمنظمة.

– الاجتهاد في البحث التاريخي وتطوير العمل الأكاديمي الجماعي.

– التركيز على مطلب “الدستور الديمقراطي” والاشتغال عليه مبنى ومعنى.

– إعادة إطلاق النقاش والحوار بين تنظيمات ومجموعات اليسار الجديد، وصولا إلى “تجمع اليسار”.

– الحوار بين الفعاليات التقدمية والإسلاميين الديمقراطيين، والسعي للاشتغال المشترك، بما في ذلك تجربة القطب الديمقراطي
“مجموعة الميدان”.

– بناء وحدة مكونات اليسار الديمقراطي عبر محطتي حزب اليسار الاشتراكي الموحد ثم الاشتراكي الموحد.

– تأسيس تحالف اليسار الديمقراطي ثم فيدرالية اليسار الديمقراطي.

– دعم حركة 20 فبراير والتعبئة لاستمراريتها وتقوية فعلها.

– دعم “حراك الريف” ومواجهة قمعه والانقلاب عليه.

كل عنوان من هاته العناوين يحتاج ـ على الأقل ـ فصلا للوقوف عند عطاء ياسين ومجادلته ومقارعته للقيادة بالتغيير من ناحية، وتفعيل جدلية قيادة التغيير وتغيير القيادة من ناحية أخرى.

يقتنع ياسين ـ فقط ـ بما نستطيع تحقيقه في سياق سياسة فن الممكن، كل الممكن وليس ربعه ولا حتى نصفه. يحرك المجموعة بتحفيز من إنصاته المعتبر، ومن إعداده المستمر وتحضيره المنتظم للقراءات، للمقترحات وللمبادرات، مع تلافي أي شكل للإملاء والأستاذية وحتى للتوجيه والتنبيه، ليلتحم كل ذلك بما يريد كل واحد ضمن المجموعة التي تلهم نفسها بالإجابة المستنتجة من الأسئلة المشتركة.

 

جدليات دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع

أدرك ابراهيم ياسين بعمق أدوار بناء البوصلة الفكرية لتفعيل الخط السياسي والخطط التنظيمية، فجادل الاستراتيجية بالتكتيك، والتفكير بالعمل، والدوائر بالمربعات، والمساحات بالعلو والامتدادات، والمسافات بالوسائل، والطرق بالمدارات، والسكك بالقطارات.

حدث ـ حسب تتبعي القابل جدا جدا للنقاش ـ تبارٍ غير معلن وغير مقصود في قراءة البوصلة بين الرفيقين محمد حبيب الطالب ـ نتمنى له الشفاء وطول العمرـ والرفيق الفقيد إبراهيم ياسين، فكان الاجتهاد للوصول إلى حسن قراءة مؤشراتها، والاختلاف في بلورة أسس الخط السياسي.

تتبع عضوات وأعضاء المؤتمر الأول لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي كيف اختلف ياسين مع رفاقه في القيادة حول تدبير المرحلة. وكان المؤتمر امتدادا للندوات التي عقدتها المنظمة وكانت لها وظيفة تأسيسية، واختارت إحدى الندوات كشعار مركزي للمنظمة “دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع”.

اختار ياسين بطريقته الفريدة والعجيبة ـ وليس لأول مرة ولا آخرها ـ التعبير عن رأيه وتأطير اختلافه بما لا يتيح أي إمكانية لخلطه بمعارضة للقيادة، ولا بسعيه لاستتباع المناضلين، ولا بأي منطق حلقي. وكانت في نفس الوقت الأمطار هامرة واستفهامات التنظيم والتطوير غامرة والأفكار والتصورات هادرة.

لم يكن ياسين ليعترض على الشعار المركزي، وإنما على احتمال انحراف تفسيره على أن دمقرطة الدولة مشروطة بدمقرطة المجتمع؛ علما أنه، منذ مراجعة منظمة 23 مارس لتعبيرات فكرها السياسي وتخليصه ما أمكن من التكلس الإيديولوجي، أحد بناة الديمقراطية كعنوان للمرحلة والدمقرطة كتجادل عميق ومجادلة مجتهدة بين مؤسسات الدولة وبنيات المجتمع، لا يمكن القول مثلا: “دمقرطة الدولة ثم دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع”، ولا “دمقرطة الدولة ثم دمقرطة المجتمع” لأن الصيغتين لا تعكسان ميزان ذاك التجادل وتلك المجادلة، وأصبح اختبار الجدل عينه في عناوين الفعل السياسي المقترح وأولوياته وترتيب الأسبقيات والمجالات والجبهات. وكان أن رمى إبراهيم ياسين بأسئلة ثقيلة على قضايا التفكير والممارسة لدى المنظمة.

تفاعل الاختلاف واستمد من الممارسة وقراءات الواقع عناصر جديدة إلى أن بلغ الأمر بالمنظمة موضوعيا ـ وليس بالرفيقين القياديين وحدهما ـ لتجد نفسها أمام تيارين، وسيدخل “على الخط” في “وسط الطريق” ثلاثي الرفاق مصطفى بوعزيز، مصطفى مفتاح ومحسن عيوش ليقترحوا حزب المواطنة والمواطنة الحزبية، واطروحة التحول الديمقراطي أو الانتقال إلى الديمقراطية. وههنا كنز مكشوف على قارعة طريق اليسار لا ينقصه إلا باحثون في السياسة وأوضاع المغرب لتحليله وتثمينه واستخلاص ما ينفع الناس والبلاد ومستقبلهما.

مع كل ذلك كان الفقيد إبراهيم ياسين بجدلياته وحكمته يبتعد كلما أمكن عن استدامة الوقوف عند الاختلاف إلى أن تحول هذا الاختلاف بعد تخصيبات موضوعية وذاتية إلى بذرة خلاف مع تعديل الدستور سنة 1992، سينفجر ويتحول إلى انقسام مع تعديل الدستور ـ مرة أخرى ـ سنة 1996، وهو الخلاف الذي هم وعم جل الأحزاب والتنظيمات الديمقراطية.

لنعد إلى البوصلة التي تميز ياسين ليس فقط بتقريب مضامينها من مفردات البرنامج السياسي، بل تميز كذلك في تصميم شكلها ليلائم واقع السياسة هنا والآن، ولجعل مؤشراتها قريبة من جوهر اليسار ومن ترجمته فكريا وسياسيا، مستفيدة من تصميمها للتضاريس والاتجاهات، ونقلها من بوصلة الجغرافية إلى بوصلة التاريخ والفعل السياسي.

كان ياسين ثوريا متسلحا بأدوات الإصلاح من أجل التغيير، ومتشبثا بعمق الإصلاحات وجوهرها كمقدمة وغمرة لثورة هادئة يستحقها المغرب وتلائم اختيارات قواه الديمقراطية وحتى خطابات بعض الجهات الرسمية.

ياسين بهدوئه الثوري وفعله المتنور يعكس عمق الاقتناع بواقعية الثورة الهادئة، والحاجة للثورة الثقافية، وبالتغيير السلمي وبالاختيار الديمقراطي والشعبي. بجملة أخرى تشبع ياسين بثورة الهدوء وهدوء الثورة وانغمر بصخب التفكير وهدوء التغيير.

سكب إبراهيم ياسين الهدوء والفورة في شرايين التنظيم ولم يكن ذلك بدون صدى، فقد صنعت التجربة اليسارية التي ساهم فيها معنى آخر للسياسة وشكلا خلاقا للتنظيم، وصيغا أخرى للإعلام وللعلاقة بالجماهير، وصورا بديعة للتفاعل مع المؤسسات ومع التحولات.

ولذلك وغيره، كثيرا ما كان إبراهيم ياسين يخرج عن العادة في التنظيم، في التحليل، في الموقف، ولم يكن ذلك من أجل التميز، فهو كان عدوا للتميز من أجل التميز. إنما جعلته مثابرته واجتهاداته وعقلانيته وواقعيته ـ دائما ـ في صلب تمييز لب الأمور عن القشور وصالح الحب عن التبن.

فلئن كسر مرات القاعدة فدون إغفال بناء قاعدة جديدة.

 

على سبيل الافتتاح

ليس هناك خاتمة مع الرفيق ابراهيم ياسين ـ على الأقل بالنسبة لي ـ فكافة الشهادات التي تقدم في حقه تعود بنا بالضرورة إلى مفتتح السياسة، وافتتاح النضال، وانفتاح الفعل الصادق على التفكير المتجدد.

كيف لا وقد كان إبراهيم ياسين سباقا في عجن الذات بالقيم والمبادئ، لاسيما القيم التي تجسد روح اليسار: النزاهة، التضامن، الكرم، الوفاء، الصدق والمصداقية، الشجاعة والجرأة، التواضع والاحترام، الانفتاح ونكران الذات، المثابرة والاجتهاد، الإيثار والتضحية، الالتزام والاستمرارية، القناعة و”الكفاف والعفاف والغنى عن الناس”.

وجعل التعبير عن القيم والمبادئ في أبسط ما يكون، وبأبعد نقطة في المستقبل. ولم تكن القيم تحفزه وتحرك دواخله بفعالية فقط، إنما كان هو أيضا منشطها بحذق وصدق ومروجها بسخاء وبهاء.

جادل الحياة بالنضال، فالنضال حياة والحياة نضال، كما لو أن الرابط بينهما تم عند ربط حبله السري لما ولد. يعيش الحياة والنضال ويعايشهما بعمق. بالكاد تخفي زخم ذلك الجدل والمجادلة بساطته في كل شيء، وبالكاد تخفي مسافة ذاك العمق سلاسته في التعبير، وبالكاد يخفي سطوع الإنسان فيه تواضعه الصادق والناطق والمستميت.

جسد جزءا كبيرا من النموذج والقدوة، رغم أنه بذل مجهودا خرافيا في ألا يكون مرجعا ولا نموذجا، لاسيما أنه أقنعنا بأن النموذج ينبغي أن تجسده مجموعة وليس فردا لأننا لا نؤمن بنبوة جديدة ولا بـ”زعيم”، وهذه من دروس ياسين.

حينما تلتزم بعمق اليسار كما فعل إبراهيم ياسين فأنت تلتزم مع السعادة، كان يصنع السعادة كما تصنعه من البساطة، من الفكرة ومن العمل ومن أدنى شيء في الحياة وفي النضال، كان يٌعدينا بسعادته الخفية كالوميض وبطريقة سرية وأساليب جد مستترة كالزهو مزاوجا للعفو، فحتى عند الفرح كان زاهدا ومتعففا ومعتدلا.

عود على بدء.. إبراهيم ياسين السهل الممتنع في كل الجدليات والمعادلات، السهل الممتنع ليس في التعبير وحده، ولا في اتخاذ القرار والتقرير وحدهما، بل السهل المتمنع في المساهمة العضوية، وفي ممارسة القيادة، وفي ربط النظرية بالممارسة، وفي ربط الذات بالجماعة، في النضال ودروسه، سهل ممتنع في الفكر والفعل، سهل ممتنع في المقام وفي المقال، وسهل ممتنع في الرفاقية والصداقة، وسهل ممتنع في التركيب والتوفيق، وسهل ممتنع في مقاومة كل أشكال التسلط وكافة أنواع التلفيق.

هل نحن بحاجة لنسترجع خصال ومكارم الراحل إبراهيم ياسين، أم علينا ـ فقط ـ أن نصيخ السمع للخصال والمكارم والفضائل وهي تتحدث اليوم ـ بدون مبالغة ـ عن نفسها وأنفاسها من خلال إبراهيم، وأن نٌحَيِّي ونحْيي معها لحظات من مسارات ياسين المناضل، المكافح، القائد، الرائد، الباحث، المؤرخ، المفكر، المجدد والمصلح/ الثوري.

كيف تكون كلماتنا أكثر من تأبين وذكر واستذكار للخصال العالية والقيم الغالية، وبما يلائم استرجاعا لمسار نضال صبور ومتبصر، واستحضارا لمسيرة حكيم وقدوة بدون عنوة، وبعثا لقيم ومبادئ حبلى بالتاريخ وبالراهن وبالمستقبل، ولفعل سياسي مرتكز على التخطيط والتقيييم وعلى النقد والتفكير، وفعل سياسي منغمس في التشوف والتصوف ـ بالمعنى الإيجابي ـ وملتحف بالاستشراف.

رفيقي العزيز إبراهيم ياسين علمتنا ألا نقدس الأشخاص، وأن نصر على مناقشة الأفكار. واليوم من حقك علينا أن نعيد الاعتبار لكل القيم والمبادئ التي شغَّلتها وانشغلت بها واشتغلت عليها.

و”اسقينا واروينا، من روحك خمرنا.. واسقينا واروينا،

و”اسقينا وْرِّينا، نخرجو من هاذ “الرْوِّينة”..

لترقد روحك رفيقي إبراهيم ياسين في محفل السكينة ومنبر الطمأنينة..

ولترفرف دوما أجنحتها الملائكية والنورانية علينا وعلى أتراحنا وأفراحنا غنيمة، نعيمة وسليمة.

 

 

 

18 March 2024