في البدء، كانت "الكومبرادورية" الصهيونية

ترتبط كلمة فلسطين منذ قِدم العهد وتتابع الأزمنة، ببعض السماتِ الخاصة التي تفترض تميزًا وعلوًا، وترتبط في الوجدان العربيّ والعالميّ بقضيةٍ عادلة بين دولة لها تاريخها الحضاريّ الناصع، واستعمار إحلاليّ لم، ولا يأنِ لحظة لإبراز وجوده وتثبيت قدمه، عبر مشاربَ شتى. وكالانهيارات الجليدية التي تتراكم وتتضافر تشقّقاتها لسنواتٍ، قبل أن تُعلن عن نفسها بالشظايا الضخمة المتناثرة، تنمو اليوم بذورُ انهيار الكيان الصهيونيّ المحتل، ببطءٍ، يُخفي بذاته ما يظهره بوضوح واقعه المتآكل، القائم على شفا الاستعمار والاستيطــان، لا رابطة الأرض.

 

إنّه نظام يتداعى، ويسير إلى قبره واقعيًا، مهما بدا قويًا عتيًا، دعائيًا، شأنه شأن أيّ احــتلال سبقه، خاله معاصروه أحد مقومات استمرار الحياة، لكن سرت عليه سنة: قد خابَ من حمل احتلالًا.

 

ما يلي، دهليز متعرّج يُفضي بنهايته لتجربة في قراءة تطور القضية الفلسطينية. أول الدهليز، رأي العلم في التزييف، وكشفٌ للتطبيع والتذويب، وأوسطه كلام في الطوفان، وآخره بيان عمّا يجب على الحركة الطلابية ضرورةً. ثم نختم بهامش، لم يجد نفسه بعد.

 

"الميثوتاريخ".. واختراع المنفى

ظلت الحقيقة التاريخية للقضية الفلسطينية، مركز ممانعة دائمة، ومحل إزعاج، وعقبة كبرى تواجه التمهيد التاريخيّ للاحــتلال "الاسرائيلي" للأرض، أدت إلى إدراك إسرائيل أن كتابة التاريخ استمرار للحرب بالوسائل التاريخية، ما استدعى اختطاف علم التاريخ عبر ميثاتٍ توراتية، تُرسخ ادعاءات تاريخية زائفة للقضية في الأذهان، وتشكل تعبئة للذاكرة حول هذه الادعاءات، بل والعمل على جعلها مسلمة حقيقية لا يمكن النقاش فيها. هذه الادعاءات ليس لها حظٌ من الحقيقة والواقع، ولا يُعتد بها في الوسط العلميّ، بل نسفتها علوم الآثار والجينات واللغويات، ما أثبتَ أنها لم تكن في الحقيقة سوى ادعاءات جيو-لاهوتية استُخدمت كأداة استعمارية تنفع السياسة الاقتصادية "الاسرائيلية"، وتمكث بها في الأرض.

 

ينطلق شلومو ساند، وهو بروفيسور في التاريخ "الإسرائيلي"، وأستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، وأحد الشخصيات التي زلزلت الذات الإسرائيلية، واستطاعت كسر الصنمية التاريخية والدينية للأساطير اليهودية، في كتابه من ثلاثيته المثيرة للجدل «‏اختراع الشعب اليهوديّ»، من هذا الإعلان الحتميّ:

"‏غير أن المؤرخين الصهيونيين، ومن بعدهم علماء الآثار الإسرائيليون، دأبوا لردحٍ طويل من الزمن، على التغاضي عن معطياتٍ معروفة".

 

هذا الإعلان ليس زلة لسانٍ أو حديثٍ لمحبٍ للاختلاف، يستلذ به لإبراز ذاته، بل هو حديث بروفيسور دارسٍ لاختراع "دولة إسرائيل" والشعب اليهوديّ، يكشِفُ العقلية المزاجية، الفكرية، للمحتل، ومحاولته أدلجة الحقائق العلمية التاريخية الجسورة، التي تشكل خطرًا على الكنز القوميّ اليهوديّ، "‏أرض الأجداد"، ومحاولة التحايل عليها بشروحاتٍ وتفسيراتٍ ضبابية مرتبكة أمام العلم.

 

ما بين الثقافتين.. تذويب القضية، ودفنها

شكّلت انطلاقة العمل الحركيّ الفلسطينيّ المــقاوم مصدر إزعاج للدولة اليهودية، أدى إلى سعي الكيان المحتل إلى إعدامه سياسيًا، وتصفيته، عن طريق سياسة خارجية جديدة رامية إلى تغيير الوضع الجيوسياسيّ في المنطقة، بسحب بساط الدعم العربيّ الجزئيّ للمقــاومة رغم قلته، عن طريق التطبيع الدبلوماسيّ، والأكاديميّ، مع البلدان العربية، واستخدام أصناف الأساليب الدعائية، والتطبيعية لهذا الهدف.

 

في سياق التفريق بين الخطاب التحليليّ التفسيريّ والخطاب العمليّ الأخلاقي، يُقسم المتخصصون الأخير إلى خطابٍ عمليّ تعبويّ وخطابٍ عمليّ قانونيّ؛ يهدف الأول إلى خلق خطابٍ دعائيّ محض، يتوجه إلى الرأي العام العالميّ وتحريضه ضد فكرة معينة، أو توجيهه نحو الداخل لخلق تعبئة جماهيرية ضد عدو معين؛ شكّلت إسرائيل إحدى القوى الإمبريالية التي أضفت قيمة أخلاقية لفعلها الاستبداديّ، بانتهاجها الخطاب العمليّ الأخلاقيّ، ضمن سياسة الدعاية التطبـيعية، لما تمكّنت مؤخرًا من نشر مصطلحات تعبوية أخلاقية مثل "ثقافة السلام وثقافة الحرب"، تلعب على وتر الارتياح العام لمصطلح "‏السلام" وما يحتويه من إيحاءات إيجابية والتبشير به، في مواجهة قيمة لا أخلاقية تسمى "‏الحرب"، ولو كانت حربًا من أجل "تحرير الأرض والذات"، ونبذ الظلم؛ ضاربين بقيمة العدل الأخلاقية، عُرض الحائط، وشحن السلام بالإيجابية مطلقًا، ولو كان احتلالًا، والحرب بالسلبية، ولو كانت مشروعة.

 

طوفــان الأقصى.. فشل الخيال، وعقد اجتماعيّ مُسائل!

"كانت الثورة زلزلة وقعت في التاريخ، فجاءت تحت زمن راكد لا يتغير إلا بأن ينسف".

يستهل الرافعيّ حديثه عن الثورة بهذه الفكرة الأدبية البديعة، لينقلنا من فكرة الثورة كمجرد حركة تحررية، إلى العلاقة الطردية بينها وبين الزمن وتغييرها للتاريخ، وتشكيلها منعطفًا هامًا للأرض؛ في ثمانينياتِ القرن السالف، فهم الفلسطينيون عُنفيّة السياسة الإمبريالة الاستعمارية، وبدأوا تشكيل العمل المقاوم الثائر على الوصاية الصهيونية، الذي تغذى في البدء على المواجهة بالحجارة والصمود الشعبيّ، الشيء الذي واجهه المثبطون بتحليلات التهور العام، واستحالة مطلب التحرير، متناسين أن الثورة الفلسطينية قامت لتحقيق المستحيل، لا الممكن. مثّل منعطف أحداث غزة عام 2007 وحصارها، الشرارة التي وشّحت المقاومة عباءة معجزة الإبداع المنتَزَع من أشياءَ مُمعنةٍ في العادية، فكانت بداية تكوين العمل العسكريّ المقاوم المنظم، المُقتات على الأحقية التاريخية للأرض، والقوة الحربية، والالتفاف الشعبيّ حوله.

 

بعد سنين من المعارك المقاومة، والحروب، وفي وقتٍ تهيَّأت فيه أطراف الصراع في المنطقة للتهدئة، وتحاورَ الخصوم، والتقى النقيضين لأول مرة، وتوافق الجميع على التهدئة، وإعادة تشكيل "شرق أوسط جديد" تقوده إسرائيل، ورمي القضية الفلسطينية على هامش بعيدًا عن قائمة الأولويات في المنطقة، خرجت عملية طوفــان الأقصى، لتعيد التذكير بحضور القضية الدائم في سلم الأولويات، واستحالةِ دفنها.

 

عقِبَ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أماطَ الأمريكيون اللثام عن مصطلح "فشل الخيال  failure of imagination"، واستدعوه كتوصيف للفشل الاستخباراتيّ أمام الهجمات، بعد بروباغندا كبيرة سبقته، تُعظم القدرات الاستخباراتية الأميركية، وقدرتها على استباق التهديدات، ليبقى مصطلحًا توصيفيًا لحالة عجزِ القادر، عن استباق تهديده، في ظل قدرته على التنبؤ به. يتقادم الزمن ويتتابع، ليُقدّر لنا أن نعيش فشلًا آخر للخيال، وهذه المرة في أرض فلسطين المحتلة، بعد أن أوهم الخيال الناس بقدرته الفائقة على استباق الأفكار المُقــاوِمة، وردع أي تهديد ثوريّ قد يمُسُّ بعقيدة الأمن القوميّ الصهيونيّ النازية، والمبادئ والمفاهيم الاستراتيجية المتعلقة بها، أو يتحدى "جيش الدفاع الإسرائيليّ"؛ هذا الفشل بعد التأليه، شكّل صدمةً للشعبِ اليهوديّ، تمخضت خلاصته عن مكاسبَ عديدة للمقـاومة، لعلّ أهمها تأجيج الصراع الداخليّ في "إسرائيل"، وجعل العقد الاجتماعيّ الاستعماريّ بين السلطة والشعب، القائم على استيطان الأرض مقابل توفير الحكومة للأمن، محل مُساءلة ومراجعة من فئة، وتشكيك وكُفرٍ به إلى الأبد من فئة أخرى، أدى بنزوح نصف مليون إسرائيلي من مستوطنات غزة منذ بدءِ العملية، حسب الأرقام الرسمية.

 

لم تتوقف أبعاد هذه الجهوزية العملياتية على البُعد الحربيّ فحسب، بل اتسعت أبعادها، رغم قصر آمادها، حتى ألقت بظلالها على الخطاب السياسيّ للمقــاومة، وتحوله من صرخات المساندة، والتضامن العالميّ في وجه المحتل منذ أمدٍ ليس بالبعيد، إلى دعوات انخراط الشعوب العربية والإسلامية، بل جميع الأحرار في العالم، في جولات المعارك التحررية، كخطاب جديد يعبّر عن الاستطاعة العسكرية لإحراج الاحــتلال ومجابهته، وإرغامه على تسليم الأرض.

 

لا مكان يسعهم.. صرخة طلابية

دور الحركة الطلابية الجامعية، كان، وما زال، دورًا رياديًا في السياق الثوريّ التحرريّ، بصفتها أداة تحريكية مُهيّجة للموقف الشعبيّ، ضاغطة على الموقف الرسميّ، تُعوّل عليها المقــاومة الفلسطينية في جميع البلدان العربية والإسلامية، لتتقلّد مهامها الأكاديمية والاحتجاجية المناهضة للاحتــلال.

 

تمثل الحركة الطلابية الموريتانية إحدى النماذج الجادة المنضبطة، الملتزمة بدور الجامعة في المحافظة على منظومة القيّم؛ فقد شهدت الساحة السياسية الوطنية عام 1999 أزمة، تمثلت في انسداد الأفق السياسيّ الرسميّ على صعيد القضية الفلسطينية، تناهى إلى تطبــيع النظام الرسميّ مع الكيان الصهيــونيّ، وهو قرار ضارب بموقف الشعب الموريتانيّ من القضية الفلسطينية عُرضَ الحائط، تصدت له المبادرة الطلابية لمناهضة الاختراق الصهـيونيّ وللدفاع عن القضايا العادلة (أعرق منظمة طلابية متخصصة في مناهضة الاختراق الصهيــوني في موريتانيا)، عبر جولاتٍ نضالية عديدة طيلة ما يُقاربُ عقدًا من الزمن، تخللت قمعًا وسحلًا وسجنًا، أفضَت في النهاية إلى التراجع عن قرار الانتحار السياسيّ، وطرد السفير الصهيــونيّ، وإعادة قطع العلاقات الرسمية مع الكيان المحتل.

 

هذه العلاقة الوثيقة بين الحراك الجامعيّ الموريتانيّ، والقضية الفلسطينية تتجلى في كل جولة معارك، وآخرها المسيرة الراجلة من الجامعة إلى سفارة أميركا، الرافضة للإبادة الجماعية التي تشنها قوى الظلام والاستعمار على غزة، باستهداف المدنيين العزّل، والأطفال، والنساء، والعجائز؛ بل تتواصل الأنشطة الطلابية السنوية، من اللقاءات، والحوارات، والملتقيات المُرسخة للقضية الفلسطينية في الوجدان الطلابيّ العام، والتثقيفية بها؛ وعلى الرغم من فاعليتها العامة في القضية، ما زالت الحركة الطلابية، رهينة الموقف الحراكيّ الدفاعيّ، المنتظر للجولات المعاركية، بدل الاستباقية التأثيرية في الموقف العام، فمتطلبات القضية وتطورها الفائق، وما يُراد من تصفيتها بالتطبــيع، ينبغي أن يكون محل نظر وتقييم، تدركه الحركة الطلابية، وتخوض فيه كافة الجولات النضالية التقويمية، حتى سنِّ قانونٍ مُجرِّم للتطبــيع مع الكيان الصهيـونيّ، فهو ضرورة المرحلة.

 

ختامًا، ليست هذه الجولة الأولى للمعارك التحررية، ولن تكون الأخيرة، لكنها حتمًا جولة كسبت من خلالها المقاومة أفراحًا استراتيجية، رغم الأتراح الشعبيّة، المشكّلةِ حِقدًا دفينًا تعبويًا، هو وقود المعارك القادمة، فكل شيءٍ بعد جُرح الفقدِ يتحول إلى ملح، كما يقول أهالي الشهداء، "‏فيما الخلاصاتُ هي ذاتها البدايات، أنهوا الاحتلال، ينتهي الأمر»، تقول فاطمة التريكي.

 

(*) رئيس الحملة الطلابية الكبرى لإغاثة الشعب الفلسطيني في المؤسسات الجامعية الموريتانية

 

13 November 2023